مؤتمر بوزنيقة للنقابة الوطنية للصحة العمومية أمام السؤال الكبير: من يجرؤ على تفعيل إصلاح المنظومة الصحية الوطنية؟

محمد السوعلي(*)

 

بينما تحتضن مدينة بوزنيقة المؤتمر السابع والأربعين للنقابة الوطنية للصحة العمومية، تتقاطع آمال مهنيي الصحة مع خيبات الأمل في تنزيل إصلاحات طال انتظارها. فالجيل الذي واكب ميلاد القانون الإطار 06.22 المتعلق بإصلاح المنظومة الصحية الوطنية، هو نفسه الذي يحضر أو يتابع أشغال هذا المؤتمر، شاهداً على تعثر الإصلاح، وتراجع الوعود، واستمرار الأعطاب البنيوية. بعد ثلاث سنوات من المصادقة على هذا القانون، لا تزال مؤشرات قياس تنزيله ضعيفة تعكس التردد الذي يطال صانعي القرار في أجرأة مقتضياته، وما زالت الهيئات الجديدة الموعودة حبيسة الرفوف، والمراسيم التطبيقية مؤجلة.
هيئة عليا بلا فعل تقويمي
القانون الإطار خصّ الهيئة العليا للصحة بأدوار محورية في ضبط السياسات وتقييم نجاعتها، غير أن غيابها العملي حتى اليوم يكشف غياب بوصلة تقويمية حقيقية. كيف يمكن قياس أثر السياسات دون هيئة مستقلة تتوخى الموضوعية في عملها ؟ وأي إصلاح يمكن الوثوق به إن كان يفتقر إلى مؤسسات فعالة للرقابة والتخطيط؟
الوظيفة الصحية: هشاشة بنيوية ومهنيون محبطون

رغم الوعد بتوحيد الوظيفة الصحية وتقوية جاذبيتها، لا يزال الواقع يحكمه التفاوت في الأجور، وتعدد أنماط التعاقد، وغياب مسارات مهنية واضحة. والحقيقة أنه لا يمكن القيام بإصلاح فعلي دون تحفيز الكفاءات، ولا الحديث عن عدالة حقيقية دون حماية المكتسبات. بل إن الحديث عن نظام الأجر حسب الأداء، الذي من المفروض أن يستقبل بشكل إيجابي من لدن العاملين في قطاع الصحة، وأن يشكل بالنسبة إليهم حافزا للرفع من مردوديتهم، يثير بدل ذلك مخاوفهم من أن يتسبب إعماله في تمييز غير عادل، وذلك نظرا لغياب معايير دقيقة وشفافة يحتكم إليها في هذا الخصوص.
لا مركزية مشوشة ومجموعات
ترابية معطلة

مشروع الوحدات الصحية الترابية كرافعة للجهوية المتقدمة والعدالة المجالية لا يزال في طور التصور. غياب تأطير قانوني واضح، وتضارب المسؤوليات بين المركز والجهات، جعلا هذا الورش ضحية الارتباك. والخلاصة التي تفرض نفسها في هذا الصدد انه لا يمكن تحقيق العدالة الصحية إن ظلت الخريطة الصحية خاضعة لمنطق المركزية الثقيلة.
عرض صحي غير متكافئ:
بين الاكتظاظ في المدن
والفراغ في القرى

التفاوتات في العرض الصحي باتت جزءاً من يوميات المواطنين. مراكز صحية مغلقة بسبب الخصاص في الموارد، ومستشفيات تفتقر لأبسط التجهيزات، بينما يتم تركيز الاستثمارات في المدن. الفصل 31 من الدستور الذي يضمن الحق في العلاج، يبدو اليوم حبرًا على ورق.
رقمنة بلا تجهيزات… وورش إصلاح بلا أساس تقني
الرقمنة ليست مجرد شعارات، بل منظومة متكاملة تحتاج إلى بنية تحتية، وتكوين مستمر، وتشريعات واضحة. لكن واقع الحال يُظهر أن أغلب المؤسسات لا تتوفر على الحد الأدنى من الشروط التقنية، بينما دول إفريقية كرواندا سبقتنا بأشواط في رقمنة السجلات الصحية.
تمويل محدود ورؤية نيوليبرالية تُفرّغ الدولة الاجتماعية من محتواها

الميزانية المرصودة لقطاع الصحة لا تتجاوز 7% من الناتج الداخلي الخام، بإنفاق لا يتعدى 1.000 درهم سنوياً للفرد، وهو رقم هزيل أمام الحاجيات المتزايدة. الأسر تتحمل 50% من نفقات العلاج من جيبها، مما يعكس ضعف الحماية الاجتماعية، ويجعل الصحة امتيازًا طبقيًا بدلا من أن تكون حقاً دستورياً.

دولة اجتماعية في الخطاب… وواقع يغلب عليه منطق السوق

رغم تبني خطاب «الدولة الاجتماعية»، فإن السياسات الفعلية تسير في اتجاه تكريس منطق السوق. إدماج المستفيدين من «راميد» في التغطية الصحية الإجبارية خطوة مهمة، لكنها تبقى جزئية، إذا لم تُرافق بخدمات فعلية وتوزيع عادل للبنيات. نفس الشيء يقال عن تعميم التعويضات العائلية والتقاعد، التي لم تصل بعد إلى الفئات الهشة.

حكامة صحية مؤجلة ومؤسسات
بدون فعالية

القانون الإطار وعد بتفعيل خمس مؤسسات جديدة، من بينها المجلس العلمي الصحي ووكالات الأدوية والدم. لكن واقع الحال يكشف عن غياب التنسيق، وهيمنة المركز، وضعف مشاركة الفاعلين المهنيين. في ظل هذا الغموض، تصبح الحكامة الصحية أفقًا غائبًا بدل أن تكون أداة للإصلاح.
التكوين والتخصص:
الحلقة المفقودة

مهنيو الصحة يواجهون مشكلات مزدوجة: ضعف التكوين الأساسي، وغياب التكوين المستمر. التخصصات الحيوية تشهد خصاصاً مهولاً، وهجرة الأطباء في تصاعد، دون استراتيجية واضحة لوقف النزيف أو توزيع الموارد البشرية بشكل عادل.
مراسيم غائبة وإصلاح ناقص: مؤسسات لم تُحدَّد واختصاصات مبهمة

من بين المراسيم التنظيمية التي نص عليها القانون الإطار 06.22 ولم ترَ النور بعد، يبرز غياب النص التنظيمي الذي يُحدد أصناف المؤسسات الصحية العمومية، مما يُبقي الهيكلة المؤسساتية في حالة فراغ قانوني. كما أن شروط وكيفيات استعانة المؤسسات الصحية العمومية بخدمات مهنيي القطاع الخاص ما تزال غير محددة، مما يُبقي العلاقة بين القطاعين في وضع ضبابي.
المجموعات الصحية الترابية:
توفر للنص القانوني.. وغياب للإرادة في أجرأته

رغم الرهان الكبير الذي وُضع على المجموعات الصحية الترابية، إلا أن غياب سلسلة من المراسيم التنظيمية يجعل المشروع مجرّد نوايا معلّقة، كغياب تحديد المقرات والمؤسسات المكونة لكل مجموعة، وتعيين أعضاء مجالس الإدارة، والهيكل التنظيمي، وآليات نقل الملكية العقارية، فضلا عن النظام الداخلي والنظام الأساسي للمستخدمين.
الهيئة العليا للصحة:
مؤسسة معلّقة وغياب تنظيمي
ينسف أدوارها

الهيئة العليا التي يُفترض أن تضبط السياسات الصحية، لا تزال غائبة بسبب غياب مراسيم تعيين أعضائها، ونقل أملاكها، ونظامها الداخلي، مما يُفقدها كل أدوات الاشتغال، ويُجرد القانون من قوته الرقابية.
وكالة الأدوية: مؤسسة مرتقبة
… لكن لا قانون ولا مقرّ

رغم النص القانوني، فإن الوكالة المغربية للأدوية والمنتجات الصحية لم تُفعل بعد، بسبب غياب نصوص تعيين مجلس إدارتها، وتحديد العقارات والمنقولات اللازمة، والنظام الأساسي للمستخدمين، والنظام الداخلي.

وكالة الدم: تأخّر في الإحداث… ونظام حيوي بدون آلية مستقلة

نفس التعثر ينطبق على الوكالة المغربية للدم، التي تفتقر إلى تأليف مجلس إدارتها، وإلى النظام الداخلي، والنظام الأساسي للمستخدمين، وإلى نقل ممتلكات المراكز الجهوية والوطنية، مما يُعطل إصلاح منظومة تحاقن الدم.
الوظيفة الصحية: غموض قانوني
يُكرّس الهشاشة ويُضعف الجاذبية

لم تُفعَّل إلى اليوم مراسيم: الأجرة المتغيرة، ممارسة المهام في إطار الشراكة مع القطاع الخاص، أوقات العمل، والتشغيل بعقود تنتهي بالترسيم. وهو ما يُضعف جاذبية المهنة ويُكرّس الهشاشة وسط المهنيين.
في الختام: أي مآل لهذا الإصلاح؟

المؤتمر النقابي السابع والأربعون ليس فقط موعدًا تنظيميًا، بل فرصة تاريخية لإعادة طرح الأسئلة الجريئة:
هل نملك الإرادة السياسية لتفعيل إصلاح حقيقي لا يُختزل في الشعارات؟
ما موقع المواطن في السياسات الصحية: مستفيد أم مجرد رقم في الإحصاءات؟
متى تُصبح الحماية الصحية حقًا فعليًا لا امتيازًا مرتبطًا بالدخل أو الجغرافيا؟
إن إصلاح المنظومة الصحية الوطنية لا يُقاس بعدد النصوص الصادرة، بل بمدى قدرته على إحداث تحول نوعي في فلسفة التدبير العمومي، يضع الإنسان في قلب السياسات، ويُعلي من شأن الصحة كحق دستوري لا كامتياز طبقي أو مجال للربح. فالقوانين، مهما بلغت دقتها، تبقى بلا روح إذا لم تُترجم إلى إجراءات واقعية، تضمن المساواة في الولوج، وتحفّز الموارد البشرية، وتُعزز الثقة في المؤسسات الصحية.
بناء منظومة صحية عادلة وفعالة يتطلب رؤية استراتيجية متكاملة، تقوم على حكامة قوية، وعدالة مجالية ملموسة، وتحفيز مستدام للكفاءات، وتخطيط طويل الأمد يُواكب حاجيات المواطنين. ومن هذا المنطلق، لا يشكّل مؤتمر بوزنيقة لحظة تنظيمية فحسب، بل محطة نضالية مفصلية لإعادة توجيه مسار الإصلاح، وتحويل الشعارات إلى التزامات ملموسة.
كما أنه يشكل فرصة متجددة للدفاع عن المطالب المشروعة والملحة للشغيلة الصحية، التي لم تعد تقبل مزيدًا من الانتظار. فالإجهاز على الحقوق، وتجاهل الالتزامات، واستمرار تعليق مخرجات الحوار الاجتماعي، كلها مؤشرات تُفرغ خطاب الإصلاح من مضمونه. ومن هنا، يتعين على النقابة الوطنية للصحة العمومية أن ترفع سقف المطالب، وتُمارس ضغطًا منهجيًا ومسؤولًا على الوزارة الوصية من أجل احترام تعهداتها، وتنزيل الاتفاقات العالقة، حماية للكرامة المهنية وضمانًا لجاذبية القطاع العمومي.
(*) عضو السكرتارية الوطنية لقطاع الصحة الاتحادي

الكاتب : محمد السوعلي(*) - بتاريخ : 17/04/2025