ما معنى « قبل كورونا وما بعدها »؟
خالد حاجي
حاولت أن ألجم ذاتي عن الخوض في موضوع وباء كورونا الذي ألمّ بنا، وذلك لاعتبارات شتى، منها أنني لم آنس من نفسي قدرة على فهم ما يجري من حولنا. فنحن أمام أحداث تتسارع بوتيرة كبرى، أسرع مما يمكن للعقل أن يستوعبه. وعجبت من أمر كثير من مثقفينا، ونحن نعيش وضع الانجحار، كيف يسارعون لاستخلاص العبر والدروس مما يحدث؛ منهم من يتساءلون عن دور الفن والفنانين في أوقاتنا العصيبة، يريدون بذلك الإعلاء من شأن الدعوة والدعاة؛ ومنهم من يلمز بالمنظومة الدينية التقليدية، يشير إلى عجزها عن مسايرة العصر والانخراط في البحث عن اللقاح. ومنهم فئة ثالثة ترى في ما يحصل مؤامرة يوشك من قام بحبك خيوطها على إحكام قبضته على العالم.
والواقع أنني ما زلت أقر بعجزي عن فهم ما يجري. إلا أني عند التأمل، أجدني أتمثل قول الشاعر العربي القديم:
سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتي أم حمار
فوجه الشبه بيننا وبين هذا الشاعر هو أننا محاطون بغبار كثيف يحجب عنا رؤية مطايانا، ولو أن الشاعر، على خلافنا، يتحدث بلغة الوثوق، يعرف أن انجلاء الغبار سيجلي للناظر أنه يمتطي فرسا. أما نحن، فيبدو أننا لسنا واثقين إلا من شيء واحد، هو أن زمن ما بعد كورونا لن يكون كالزمن ما قبلها. أما موقعنا في هذا الزمن القادم ومكانتنا تحت شمس الغد فلا يعلمهما إلا الله.
إن تعجب فعجب كيف شاعت فكرة « ما قبل وما بعد كورونا » وأحكمت قبضتها على العقول كمسلمة يبنى عليها كل نقاش ويتأسس عليها كل تفكير. لماذا يفترض أن يكون العالم ما بعد هذا الوباء بالضرورة مختلفا عما كان عليه قبله؟ ما الذي تغير؟ صحيح أنه بالإمكان أن يقوم هذا الادعاء على استقراء لتاريخ الأوبئة، كأن يقول القائل بأن كل الأوبئة غيرت معالم الدنيا وأرست دعائم أنظمة حضارية وعلاقات دولية جديدة. لكن يصعب على المؤرخين إثبات أن البشرية أثناء الأوبئة السابقة كانت، وهي تحارب من أجل البقاء، تحتكم إلى نفس المسلمة التي نحتكم إليها اليوم، تعي قبلا أن عالم ما قبل الوباء سيكون مختلفا عن عالم ما بعد الوباء.
أذكر أنني كتبت مقالة قبل سنوات تحت عنوان « الرمز المفقود أو زمن ظهور الباطنية »، والمقالة عبارة عن قراءة في رواية دان براون الرمز المفقود. ما أثارني في الرواية حينها هو حديث دان براون عن مختبر يعنى الساهرون عليه بالاشتغال على الأفكار، يرومون بلورة الفكرة الأقوى التي تملك أن تجر العالم وتحدد وجهة الفعل الإنساني فيه. وتجدني اليوم أتساءل: ألسنا، ونحن نسلم بفكرة ما قبل وما بعد كورونا، أمام أقوى فكرة على وجه الأرض، تعين وجهة التفكير الإنساني وتحجب عنه آفاق النظر الأخرى! ويخيل إلي أن فكرة ما قبل وما بعد كورونا تحضر العقول للقبول بحتميات جديدة لا سبيل إلى دفعها.
من البواعث التي دفعتني إلى كتابة هذه الأسطر هو مقالة هنري كيسنجر التي اختار لها عنوان: « وباء كورونا سيغير العالم إلى الأبد ». وقد استوقفتني في هذا المقال جملة واحدة، بنيت على مسلمة أن عالم ما بعد كورونا سيكون إلى الأبد مختلفا عن عالم ما قبلها، وهذه الجملة تقول: «إن الوباء أفرز لنا مفارقة تاريخية، وهي إحياء المدينة المحاطة بالأسوار (ويقصد بها هنا الدولة ذات الحدود المغلقة) في زمن يتوقف فيه الرخاء على التجارة العالمية وتنقل الشعوب ». تتضمن هذه الجملة دعوة إلى إعمال العقل الاستراتيجي قصد رفع التناقض بين حاجة الدول إلى الانكماش على ذاتها، بعيدا عن منطق العولمة الاقتصادي المسوغ للانفتاح، وبين حاجتها إلى تجارة عالمية قوامها تنقل الشعوب. فهذه معضلة حقيقية، حيث يستحيل رفع إحدى الضرورتين أو الحتميتين، كأن نفتح حدود الدولة، أو نوقف تنقل الشعوب.
ولا أخال حل هذه المعضلة يغيب عن هنري كيسنجر، رجل الاستراتيجية المحنك. يقول باستحالة أو صعوبة التفكير في مسألة السلطة والشرعية الآن ونحن في زمن الوباء، لكنه في الوقت نفسه يؤكد على ضرورة صيانة قيم الأنوار، مناديا جميع الأطراف بالتحلي بالصبر وضبط النفس. نلمس من هذا الحديث ضربا من الخلط المتعمد الذي يراد منه استدراج القراء إلى التفكير في مستقبل أمريكا والعالم المتنور الاستراتيجي انطلاقا من حالة الطوارئ التي فرضها الوباء. وهذا أمر لا يستقيم. لو صح أن الوباء يطال العالم كله، لا يعترف بالحدود الجغرافية، وأن مكافحته تقتضي تضافر جهود الجميع وتعاونهم، فلماذا لا يصح أن يكون الوباء فرصة لفكر استراتيجي جديد يوطد دعائم نظام دولي يعي المخاطر المحدقة بالإنسانية ويستحث الجميع على نبذ الخلافات السابقة لبدء صفحة جديدة! أقل ما يمكن أن يقال هو أن في كلام كيسنجر لبس وغموض كبيرين.
فالراجح عندنا أن مطلوبه ومطلوب الفكر الاستراتيجي الجديد، المسكوت عنه، هو تثبيت قوائم نظام هجين Hybrid يقوم على التوليف بين الدولة المتحيزة داخل الحدود الجغرافية التقليدية، وبين سوق كونية افتراضية تبقي على حق الشعوب في التنقل الافتراضي قائما. من الآن فصاعدا، سيكون طلب الرخاء مقترنا بشرطين اثنين: الشرط الأول هو وجود دولة بمواصفات ليبرالية، تقليدية وصلبة في نفس الآن، غير الدولة في أزمنتنا السائلة كما يسميها زيكمونت باومان؛ والشرط الثاني هو سوق افتراضية تخترق جميع الحدود. بهذا يكون وباء كورونا قد غير ملامح العالم إلى الأبد، أو يكون فرصة للإعلان عن ميلاد عهد جديد، تتنافس أو تتصارع فيه الدولة الليبرالية-الصلبة، دولة تستمد صلابتها من حالة الطوارئ، حول سوق أو أسواق كونية افتراضية.
عند التأمل، نجد أننا في الحجر الصحي الذي نعيشه اليوم، اتقاء للإصابة بفيروس كورونا، لا نطلب إلا شيئين اثنين: قفة مؤونة تضمن لنا الأكل والشراب، ووسائل التواصل مع العالم الخارجي، بمعنى آخر الإنترنت ولوازمه. وكأننا بالحجر المفروض على العالم، إذ يقوي دعائم التواصل عن بعد، والتعليم عن بعد، والعمل عن بعد، إنما يقوض ما تبقى من أسس الفضاء العمومي الديموقراطي التقليدي، تقويضا قد يسهل معه التمكين لاستراتيجية السوق الافتراضي في عالم الغد.
لماذا لا تفكر الشعوب، كما يفكر كيسنجر، في بلورة استراتيجية ما بعد كورونا؟ كأن تقول مثلا، نريد أن نخرج من جحورنا لنجد عالم ما بعد كورونا عالما متخلقا، متراحما، يستصغر حياة الرغد، ترشد معه حركة الإنسان في الكون، يعمه التآزر المجتمعي، يكبح فيه جموح المضاربة المالية، يقل فيه التلوث، يلتفت فيه الإنسان إلى الضروريات أكثر من حرصه على الكماليات، نعيد فيه ترتيب علاقاتنا الأسرية على وجه أفضل، وترتيب العلاقات الدولية على وجه يضمن تعاون الشعوب على المصلحة المشتركة؟
لن يكون هذا الأمر ممكنا مع تصلب الدولة الليبرالية المتاجرة وهيمنتها على الفضاء الافتراضي. في مرحلة ما قبل كورونا، كانت الهجنة تسمح بالتفكير من داخل الفضاء الافتراضي ثم النزول إلى الفضاء العمومي الجغرافي. أما ما بعد كورونا، فستتحكم الدولة الليبرالية-الصلبة في مقاليد السلطة لتوجيه الذكاء الجمعي داخل الفضاء الافتراضي، وذلك اعتمادا على تمكنها من الذكاء الاصطناعي، ذكاء يوسع للفكرة الذي يريد، ويضيق على الفكرة التي يريد، ذكاء يتصارع من أجل الحصول على الفكرة الأقوى والأطول والأكثر تأثيرا في الواقع الكوني.
أجدني هنا أكرر ما كتبته في مقالة سبق نشرها قبل سنتين، بعيدا عن أجواء مقولة « ما قبل كورونا وما بعدها »؛ قلت فيها التالي: « يخيل إلينا لأول وهلة أن الأمر بسيط، نعتقد أننا نسير باتجاه نظام دولي جديد أساسه المحورين، الأمريكي الديموقراطي، والصيني اللاديموقراطي؛ والواقع أنه على بساطته الظاهرة، فإن الأمر يبدو لنا أعقد بكثير عند تقليب النظر. إذا كانت الشعوب في العالم العربي الإسلامي، ومعها حتى شعوب أوروبا، تتدحرج بين هذين النموذجين، تتردد على أي الجنبين تميل، فهذا دليل على فقدان الوجهة وتأشير على انهيار كل نماذج السلطة التقليدية، ديموقراطية كانت أو لاديموقراطية. إن ما يحصل اليوم، على الحقيقة، هو أن التطور التكنولوجي الرقمي الرهيب ساهم في تفكيك بعض الأسس التي انبنى عليها النظام القائم على ثنائية الديموقراطية وضدها؛ وصار، بالمقابل، يفرز لنا نظاما جديدا لم تتحدد ملامحه الكبرى بعد، اللهم إلا إذا استثنينا كونه نظاما لا يكترث بحكم الشعوب لذاتها، بقدر ما يزعم أنه يكترث بحكم الأفراد لذواتها ».
فالظن عندي، والله أعلم، أن هذا الوباء الذي ألمّ بنا، والذي نرجو الله أن يرفعه عنا، وندعو الناس إلى الالتزام بالإجراءات الصحية لمكافحته، قد يجد فيه كثيرون فرصة لتثبيت استراتيجيات مستقبلية شنيعة، وجه الشناعة فيها هي جرأة المبشرين بها على الكلام في سبل تحقيق الهيمنة، وكأننا نخرج من حرب بيننا، والأصل أننا نحارب الوباء مجتمعين، وأن في اجتماعنا هذا ما قد يسهل استشراف مستقبل بملامح أخرى، مستقبل تخف فيه وطأة الصراعات الموروثة. ومع هذا فيجب ألا ينقطع رجاؤنا في أن تتخذ الشعوب الخلوة التي فرضها الوباء علينا فرصة للتأمل في أبعاد فاتنا التنبه إليها من قبل، في مسار الحضارة الإنسانية، في مستقبل العلم والعالم، في علاقتنا بالحياة والموت، في جدوى كثير من حركاتنا وسكناتنا، وفي معاني الوجود الكبرى.
الكاتب : خالد حاجي - بتاريخ : 13/04/2020