مجزرة الكيماوي ليست سبب تبدل موقف ترامب من سوريا

محمد قواص

لم يكذب سفير الولايات المتحدة في سوريا روبرت فورد حين أبلغ وفدا من المعارضة بأن بلاده لن تعمل على إسقاط نظام بشار الأسد وأن عليهم العمل تحت سقف تسوية مع هذا النظام، وأن واشنطن والمجتمع الدولي لن يدعما عملية تسقط نظاما وتقيم آخر يروق للمعترضين.
كان السفير نفسه، الذي استبعد عن هذا المنصب لاحقا، وهو الذي قام رفقة سفيري بريطانيا وفرنسا بزيارة المتظاهرين ضد النظام في مدينة حماة في صيف عام 2011، يتكلم من موقع الصديق والمؤيد لثورة السوريين، محاولا تخفيف أبعاد الزيارة لحماة وعدم تحميلها معاني تتجاوز حدود التضامن الشكلي أو المبدئي مع حراك شعبي سلمي ضد نظام استبداد.
تعاملت واشنطن، كما العواصم الغربية، مع الحراك السوري في بادئ الأمر بصفته الرومانسية التي تحكيها الروايات حول انتفاضات الشعوب ضد الطغاة على النحو السوريالي الذي شهدته بلدان أوروبا الشرقية غداة انهيار جدار برلين الشهير.
لم تكن تلك العواصم تحمل ودا لنظام الأسد لكنها لم تكن تخطط لإسقاطه، وجلّ ما قاربته هو مواكبة حراك السوريين وتصويب مسالكه بما لا يحدث انقلابا في توازن المنطقة واستقرارها. كان في ذهن أصحاب القرار في عواصم القرار هدف واحد ومقياس واحد: أمن إسرائيل.
لم تخف اللوبيات القريبة من الدولة العبرية امتعاضها من ثورة السوريين، ليس هياما بالأسد ونظامه بل لأن نظام دمشق احترم منذ عام 1973 خطوط إسرائيل الحمراء ولم يسمح بأي تجاوز يقلق أمن إسرائيل على جبهة الجولان. يتذكر جنرالات إسرائيل أن النظام السوري هو الذي حاصر الصعود الفلسطيني في لبنان من خلال التدخل العسكري السوري في لبنان عام 1967، وهو الذي اصطدم بالفصائل الفلسطينية متحالفا مع الميليشيات المسيحية آنذاك، وهو الذي أشرف ضباطه على إسقاط مخيم تل الزعتر… إلخ.
ولم يكن السلوك السوري آنذاك دفاعا عن لبنان وسيادته، بل كان فرضا لوصاية دمشق على القرارين اللبناني والفلسطيني معا. وتثمّن تل أبيب أن دمشق قامت باستنزاف القوة الفلسطينية التي كانت تقلق إسرائيل على نحو وبأشكال لم تكن الدولة العبرية قادرة على تحقيقها.
ثم أن استراتيجيي إسرائيل يقدرون لنظام دمشق استكماله الورشة التي باشرتها تل أبيب مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 بقيادة آرييل شارون، حين قامت بطرد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من الأراضي السورية، وقامت باغتيال القيادي الفتحاوي الرفيع سعد صايل (أبوالوليد) في منطقة البقاع اللبناني التي كانت قواتها تشرّف عليها، وصولا إلى محاصرة “أبوعمار” في مدينة طرابلس في شمال لبنان التي لم يكن لينجو منها لولا تدخل سلاح البحرية الفرنسي الذي قام بإجلائه من المدينة، انتهاء بمطاردة واعتقال واضطهاد الفتحاويين في سوريا ولبنان تحت عنوان “الزمر العرفاتية”.
لم تر إسرائيل مصلحة في استبدال نظام في دمشق تعرفه وتدرك مفاتيحه وقواعد العمل معه بآخر قد يكون أكثر قبولا بالنسبة إلى السوريين لكنه أكثر غموضا بالنسبة إليها. عملت منابر إسرائيل في الولايات المتحدة كما في إسرائيل نفسها على الدفاع عن بقاء الأسد بصفته الأكثر ضمانا لأمن الدولة العبرية، ما تداعى على القرار الأميركي في مقاربة المسألة السورية. بدا أن لا مصالح لواشنطن وأوروبا في سوريا، وأن هذه الدول لن يقلقها الحدث السوري على مآسيه طالما أنه لا يمثل قلقا لتل أبيب.
إعادة التموضع

تحركت واشنطن بغضب في عهد الرئيس السابق باراك أوباما حين استخدم النظام السوري أسلحة كيماوية ضد غوطة دمشق عام 2013. يدرك العارفون أن هذا الانزعاج الأميركي الذي كاد يحرّك قطعا بحرية أميركية باتجاه الشاطئ السوري لم يكن وليد حرص على مدنيي سوريا فقط، بقدر ما كان نتاج قلق مما تشكله سابقة استخدام سلاح دمار شامل على أمن إسرائيل. تحركت موسكو استجابة لغضب واشنطن وأشرفت على تسليم نظام دمشق ما زعم أنه كامل سلاح سوريا الكيماوي.أدرك أوباما انسداد الخيارات التي يستطيع سلوكها تحت سقف عقيدته الشهيرة في مقاربة العالم ومقاربة الشرق الأوسط. حصل أنه التقى بنظيره الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة الأمم المتحدة في خريف عام 2015. وحصل أن الأخير حرّك قاذفاته لتصب نيرانها فوق الأراضي السورية بعد ساعات على هذا الاجتماع.
ببساطة لا يمكن فهم ذلك إلا في سياق “وكالة” منحتها واشنطن برضى غربي كامل لروسيا لمعالجة الملف السوري والشروع في الجراحات الضرورية لإعادة استقرار ما إلى هذه الفوضى المنفلتة.
يستنتج الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذه الأيام أن إدارة أوباما مسؤولة عن التدهور الخطير الدراماتيكي في سوريا على النحو الذي يسمح بارتكاب مجزرة خان شيخون الكيماوية. يتحدث سيّد البيت الأبيض الجديد عن “فراغ” سببته إدارة السلف على نحو يوحي بأن خططا لملئ هذا الفراغ تعدها إدارة الخلف.
قارب رجل أميركا الأول المسألة السورية بصفتها “وديعة” لدى روسيا سيجري التفاوض حولها من ضمن ورشة إعادة قراءة طبيعة العلاقات المقبلة بين الولايات المتحدة وروسيا. وذهبت الدبلوماسية الأميركية في الأيام الأخيرة إلى إرضاء موسكو بالحديث عن تخلي واشنطن عن أي أولوية لإسقاط الأسد، بما دعّم الأفكار التي تطلقها تيارات اليمين المتطرّف في أوروبا حول هذا الشأن.
كان في ذهن ترامب أن مصير زعيم النظام السوري تفصيل داخل ورش المداولات المقبلة في العالم، لا سيما موقع ووظيفة روسيا داخل الصراع الأميركي الصيني وفق خططه. شيء ما تبدّل سريعا في موقف الولايات المتحدة من الشأن السوري. ليس دقيقا أن مجزرة خان شيخون هي وراء هذا الانقلاب الدراماتيكي في مزاج واشنطن، بل إن تلك المجزرة كانت المناسبة التي توفّرت لإفراج الولايات المتحدة عن تحولاتها.
لم يكن صدفة إبعاد مستشار الرئيس المقرّب ستيفان بانون عن مجلس الأمن القومي، فذلك مؤشر على تقدّم المؤسسات الأمنية والعسكرية التقليدية داخل حلقة القرار الاستراتيجي الأميركي على حساب البيت الأبيض. في ذلك أيضا أن الانتشار العسكري الأميركي في العراق وسوريا والتموضع الأميركي السياسي الاستراتيجي داخل الشرق الأوسط، باتا يستدعيان موقفا شفافا مباشرا يضع خطوطا وعلامات وقواعد وخرائط لعودة الولايات المتحدة بحيوية وقوة للعب الدور الأساسي الأول في الشرق الأوسط.
تغير الموقف من سويا

للمراقب أن يتأمل الجلبة التي يحدثها الزعماء العرب على أبواب البيت الأبيض لاستنتاج خطوط التحالف الأميركي العربي الجاري بناؤه في المنطقة. تحوّل الموقف المصري بشكل حاسم في مسألة إدانة السياسة الإيرانية. وأعادت أرامكو السعودية ضخ النفط إلى مصر، فيما أوقفت الأخيرة عقودا لاستيراده من العراق.
بدا أن المفاعيل الأميركية تخصّب تموضعات وتصوّب مواقف وترتّب اصطفافات على نحو لا يحتمل لبسا أو لغطا أو إنصاف مواقف حذقة. فإذا ما كانت واشنطن ترسل قبل أيام إشارات تسووية إلى روسيا من الشرفة السورية عشية زيارة وزير خارجيتها ريكس تيلرسون إلى موسكو الأسبوع المقبل، فإن واشنطن نفسها بدّلت مضمون الرسائل وذهبت من خلال ضرباتها الصاروخية الأخيرة، خدمة لنفس الزيارة.
من على باب البيت الأبيض، وبصحبة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، يعلن دونالد ترامب الأربعاء أن موقفه تبدّل من المسألة السورية بعد خان شيخون. كان بإمكان الرجل أن ينتظر تحقيقا يستغرق أشهرا، وكان بإمكانه أن يشكك في مسؤولية النظام عن ذلك ويتساءل عن مصلحة دمشق في ذلك، وكان بإمكانه أيضا أن يتبنى الرواية الروسية على ركاكتها حول الحادثة، لكنه لم يفعل.
بدّلت واشنطن موقفها قبل المجزرة. بدا أن الولايات المتحدة تريد أن تكون فعلا لا رد فعل، وأن تفرض روايتها وتترك للآخرين التفاعل معها. تحدث ترامب عن “فراغ” سببته إدارة أوباما في سوريا والشرق الأوسط و”أنا اليوم سأتحمل مسؤولياتي في هذا الشأن”. كرر الرجل مقته للاتفاق النووي مع إيران بصفته “أسوء اتفاق”. وحين سُئل عمّا ستفعله بلاده ضد الميليشيات الإيرانية في سوريا، أجاب دون تردد “ستصلهم الرسائل”.
يكره ترامب الأمم المتحدة ومجلس الأمن ولطالما أمعن في هجائهما أثناء حملته الانتخابية. قبل أن يدلي ترامب بدلوه بحضور ملك الأردن كانت مندوبته في مجلس الأمن نيكي هالي تكشف عن رسالة مرمّزة يسهل فك رموزها “عندما تفشل الأمم المتحدة باستمرار في مهمتها القاضية بتحرك جماعي، هناك أوقات في حياة الدول نجبر فيها على التحرك بأنفسنا”.
الولايات المتحدة توحي بتجاوز المنظمة الأممية والعودة إلى أزمنة التدخل عبر القوات المتعددة الجنسيات. قد لا يكون الأوروبيون بعيدين عن همّة للتدخل لإخماد البركان السوري. أوحى مؤتمر بروكسل حول سوريا بالحاجة الأوروبية للكلام عن إعمار سوريا ووقف تدميرها، وأوحى موقف لندن وباريس من مصير الأسد نفسه بأن علل أوروبا باتت متصلة بالوباء السوري وأن شفاء ذاك بات مرتبطا بعلاج ذلك، حتى لو كان آخر العلاج الكيّ.

الكاتب : محمد قواص - بتاريخ : 12/04/2017