مردّان تاريخيان لانتكاس الديموقراطية بالجزائر

عبد الله راكز

“وهكذا تحت قناع الحزب الواحد، أصبح الجيش هو الصيغة التي اهتدت إليها المجموعات المحظوظة التي تكونت في ظل الاستعمار للسيطرة على الطبقات الشعبية…». محمد حربي»الثورة الجزائرية /سنوات المخاض».

1/في المردّ الأول:

رسمت انتفاضة أكتوبر العام 88 بالجزائر، وما أعقبها من قمع دموي شرس وماتلاها أيضا، من تداعيات غير محدودة إلا بالتّغيّرات التي طرأت على المشهد السياسي الجزائري في ما بعد(ونعني اشتداد العنف بين فرق المجتمع الأهلي الجزائري)، أهم ثاني تحوّل في تاريخ الجزائر السياسي، بعد التّحول الذي جرى إبان وبعد اتفاقيات إيفيان التي حققت الاستقلال السياسي العام 62 . وهذا التحول أتى يُلخص، في طيات مضمونه، حجما هائلا من الاستياء العام الشعبي القائم على تشابك الأزمات وعلى حدّة التّخبط الثقافي وانتشار مشاعر الاحباط السحيقة في صفوف الفئات والطبقات الشعبية التي لم يُنصفها الإستقلال إطلاقا، ولا منحها القائمون(باسم الثورة) على تدبير الشأن العام السياسي حقها الأدنى في العيش بكرامة وحرية.
يقول محمد حربي مرة أخرى، وفي قوله أكثر من معنىً ودلالة في هذا الصدد:
«في العام 62، كان عدد سكان الجزائر قد بلغ بالكاد عشرة ملايين نسمة، وقد ولد ثلاثة أرباع سكانها بعد الاستقلال، ولم يشهد هؤلاء لا العهد الاستعماري ولا الحرب ضد الفرنسيين بل العكس كانوا لثلاثين عاما وأكثر تحت حكم جبهة التحرير الوطني مما يثير لدى غالبيتهم مشاعر الرفض..»(نفس المرجع).
لم يكن لحكم الثلاثين عاما تحت قيادة جبهة التحرير الوطني المذكورة، أن يُحدث من التغيير ما كان مأمولا لدى الشعب الجزائري..سوى أنه وبالمقابل(إلى حدود الساعة، والانتفاضة الحالية مؤشر واضح) ضخّ هيكل الإدارة بالبيروقراطية( ذات الأصول العسكرية)، وكثّر من الاحتجاجات الشعبية بموجب ما توافر من زبونية(حتى أن هاتين الأخيرتين شكلتا أهم القضايا التي استثمرتها جبهة الإنقاذ دعويا في ما بعد)، ولم يكن بالتالي من نتيجة لهذا سوى تفريخ وتناسل العديد من الأسر الفقيرة اللاجئة في شقق صغيرة وتسكّع مُزمن للشباب في الشوارع، ومدارسها مصانع لتفريخ العاطلين- فيما تفضل نخبة السلطة إرسال أبنائها للتمدرس في الشبكات الفرنكوفونية- وكذا فشل سياسة التصنيع الثقيل(بالأسلوب المسَفْيث) بل وفشل أسلوب تعاونيات التسيير/التدبير الذاتي(رغم ترافقه مع الطفرة النفطية)وغير هذا، مما شكّل أكبر معلمٍ ومرجع في هذا الصدد، لفهم طبيعة الإفلاس السياسي والاقتصادي الذي أصاب الجزائر ماقبل 88 ، بعدها والآن.

2- في المردّ الثاني:

ولئن تفطّنت النخبة العسكرية لهذا(وفق ما سبق)،فإنها لم تستطع مع ذلك تعبئة الجماهير في صفها بعد أن فقدت هذه الأخيرة الثقة بالمرة في جبهة التحرير الوطني. فلا العثور على رجال سياسة جدد لم ينتموا قط لهذه الأخيرة،أكفاء وقادرين على تدبير حلّ للأزمة السياسبة الشائكة،دون المساس بموقعهم ومصالحهم ولا إقالة الشاذلي بنجديد وتكوين «مجلس أعلى للرئاسة «تصدّر زعامتهم وقيادتهم من دون جدوى، ولا استدعاء محمد بوضياف كأحد رموز الشرعية التاريخية، أفاد في إعادة الاستقرار وإعادة هيبة الدولة واستمرارها-وفق المنظور المركزي للنخبة العسكرية- وكذا استنهاض المجتمع من جديد في تعبئة شاملة قمينة باسترجاع وجه وهيبة الجزائر على المستوى الإقليمي والدولي.
كان لابد من هذا التوضيح لفهم طبيعة الظروف التي جرت فيها الانتخابات الرئاسية المبكّرة في منتصف أبريل من العام 99 وأتت بعبد العزيز بوتفليقة، وهو أحد مؤسسي العهد البومدييني رئيسا للجزائر(ومن حسن الصدف أنها تُماثل ظروف الإتيان بعبد المجيد تبون الآن)…والحال أن إجراء هذه الانتخابات المبكرة (في كلتا الحاتين ) أتى يُوضّح على نحو جلي، الفشل التام للنهج والأسلوب اللذين انتهجتهما(ولا تزال) السلطة القائمة في معالجة المعضلات الكبرى التي ترزح تحت وطأتها الجزائر: الاقتصادية والسياسية…فأمام استمرارها، لم يحظ الملف الديموقراطي(إلى اليوم طبعا) بأدنى حظ من الاهتمام بجعل تدبيره يتم بشكل أقْوم، كأداة اجتراح عملية لحل متوازن وشامل..
وإذن، فالظروف التي جرت فيها الانتخابات الأخيرة والملابسات التي تحكّمت في «فوز» عبد الحميد تبون رئيسا..أتت تُؤكد من جديد حالة الإعياء التام الذي أصاب الشعب الجزائري إزاء واقع أصابه الثّبات في صيرورة تحوله، والشّلل في دينامية أدواته وفاعليته السياسية، حتى لقد بدا واضحا لديه(=الشعب)،وللأسف، ذلك الميل الماضوي الحنيني إلى الفترة البومديينية بوصفها فترة «استقرار» وعصرٍ ذهبي وغير هذا مما شابه .

الكاتب : عبد الله راكز - بتاريخ : 18/08/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *