من فشل الإسلاميين إلى خيبة الحكومة النيوليبرالية: من يستفيد ومن يدفع الثمن؟

محمد السوعلي (*)
مقدمة: ثلاث حكومات… والمواطن في نفس الدائرة
منذ سنة 2011، تداولت على تسيير الشأن العام ثلاث حكومات مختلفة في الشكل، لكنها متقاربة في الجوهر. بدأت التجربة مع الإسلاميين الذين وعدوا بالإصلاح ومحاربة الفساد، ثم دخلت البلاد مرحلة توافق سياسي هش دون بصمة واضحة، وصولًا إلى الحكومة الحالية التي تُمثل توجهًا نيوليبراليًا واضحًا، تجمع بين التحكم في المؤسسات والتقارب مع دوائر المال والقرار الاقتصادي. لكن ما يجمع بين هذه التجارب الثلاث هو استمرار نفس النهج في السياسات العمومية، المبني على تفكيك الأدوار الاجتماعية للدولة، والركون إلى منطق السوق، والتراجع عن مكتسبات العدالة الاجتماعية، في ظل غياب أي مساءلة حقيقية أو مراجعة للخيارات المعتمدة. ورغم اختلاف الشعارات والوجوه، ظلت النتيجة واحدة: هشاشة مستمرة، وثقة متآكلة، ومواطن يراوح مكانه بين الخيبة والتوجس.
حكومة تملك كل المفاتيح… لكن عاجزة عن فتح أبواب الأمل
جاءت الحكومة الحالية مدعومة بأغلبية برلمانية مريحة، ومجالس ترابية موالية، ودعم منسجم من المؤسسات الاقتصادية والإعلامية. هذا التمركز السلطوي كان من المفترض أن يخلق دينامية جديدة في الفعل العمومي، لكن الحصيلة كانت دون التوقعات. فمعدل النمو لم يتجاوز 2.8% في سنة 2023، وهو رقم لا يعكس أي تحسن في مستوى معيشة الأسر، ولا في خلق فرص الشغل، حيث وصلت البطالة إلى 13.5% على المستوى الوطني، وتجاوزت 20% في الوسط الحضري. أما التضخم، فقد ضرب القدرة الشرائية بشكل مباشر، خاصة مع الارتفاع المهول في أسعار المواد الغذائية، التي قفزت بأكثر من 16% في بعض الفترات، دون أن ترافق ذلك أي إجراءات فعالة لحماية الفئات المتضررة.
ورغم هذا الواقع المقلق، اختارت الحكومة الاحتماء خلف خطاب الإنجاز والتوازنات الكبرى، متجاهلة عمق الأزمة وتداعياتها الاجتماعية والنفسية على المواطنين. ويكفي أن نُصغي لنبض الشارع لندرك أن هناك قطيعة حقيقية بين الحكومة والواقع المعاش، بين لغة الأرقام الرسمية وألم الناس في تفاصيل حياتهم اليومية.
إصلاحات هيكلية أم كوارث اجتماعية؟
تحت شعار «الإصلاحات الهيكلية»، أقدمت الحكومات المتعاقبة على خطوات جسيمة، لكن آثارها المباشرة كانت عكس ما رُوّج له. إصلاح نظام التقاعد مثلًا، تمّ في غياب توافق مجتمعي حقيقي، وأسفر عن رفع سن التقاعد وتقليص المعاشات وزيادة الاقتطاعات، دون أن يُعالج أصل الأزمة أو يضمن استدامة الصناديق. أما تحرير سوق المحروقات، فقد تمّ دون وضع ضوابط لحماية المستهلك، فكان المستفيد الأكبر منه هي شركات التوزيع التي ضاعفت أرباحها، بينما تحمّل المواطن عبء الزيادات في التنقل والإنتاج وأسعار الخدمات. ويُضاف إلى ذلك إلغاء صندوق المقاصة تدريجيًا، ما أدى إلى رفع الدعم عن مواد حيوية مثل غاز البوتان والدقيق والسكر، دون أن يُعوّض ذلك بدعم مباشر ناجع للفئات المتضررة.
هذه «الإصلاحات»، التي يُقدمها الخطاب الحكومي كدليل على الجرأة، لم تُنتج سوى مزيد من التفاوتات وتآكل الطبقة المتوسطة، في غياب تام لأي رؤية إنصاف اجتماعي. والواقع أن هذه القرارات صُمّمت بمنطق تقني – مالي محض، لا يضع الإنسان في قلب المعادلة، بل يُحمّله نتائج خيارات لم يُستشر فيها أصلًا.
من يدفع الثمن؟ ومن يجني الامتيازات؟
الثمن، كما هو معتاد، لم تدفعه الحكومة، بل المواطن. فالموظف العمومي يعيش منذ سنوات تحت ضغط الغلاء دون أي تعديل حقيقي في الأجور، والمتقاعدون يعانون من معاشات مجحفة لا تواكب تكلفة الحياة، والشباب يواجهون انسداد الأفق وندرة الفرص، ما يدفع الآلاف منهم إلى الهجرة أو الانخراط في الاقتصاد غير المهيكل. وفي المقابل، هناك أقلية اقتصادية استفادت بشكل واضح من السياسات المتبعة: شركات المحروقات التي راكمت الأرباح، فاعلون في العقار والتعليم والصحة الخصوصية، ولوبيات تستفيد من الامتيازات الضريبية دون أي التزام اجتماعي ملموس.
هذه الهوة بين من يُضحّي ومن يستفيد، تُنتج حالة من الغبن الجماعي والشعور باللاعدالة، وهو ما يُهدد بقاء أي تعاقد اجتماعي مستقر. لأن شعور المواطن بأن النظام الاقتصادي لا ينصفه، بل يُعيد إنتاج فقره، يُحوّل اللامبالاة إلى رفض، واليأس إلى قطيعة سياسية.
خطاب إنجاز… فوق واقع هش
الخطاب الرسمي يُراكم عبارات عن «الدولة الاجتماعية» و»النموذج التنموي الجديد»، لكنه لا يتجاوز في الكثير من الأحيان الشعارات. فتعميم التغطية الصحية لم يُرفق بتأهيل حقيقي للعرض الصحي، والتعليم العمومي ما يزال يُعاني من اكتظاظ، نقص في الأطر، وتراجع في الجودة، رغم كل الاستراتيجيات المعلنة. أما التشغيل، فقد تُرك للمبادرات الفردية والمقاولات الصغيرة التي لا تجد تمويلًا، ولا مواكبة، ولا مناخًا آمنًا للنجاح. وحتى الدعم الاجتماعي المباشر، الذي رُوّج له كآلية للإنصاف، فشل في الوصول العادل إلى المستفيدين، بسبب ضعف الوساطة الترابية، وضبابية المعايير، وغياب العدالة المجالية.
هذا التناقض بين الوعود والواقع يُعمّق الفجوة بين الدولة والمجتمع، ويطرح أسئلة جوهرية حول صدقية الفعل السياسي في المغرب، وجدوى الاستمرار في تكرار نفس النمط التدبيري في انتظار نتائج مختلفة.
نحو قطيعة حقيقية
مع وهم الإصلاح
ما يحتاجه المغرب اليوم ليس خططًا جديدة بنفس العقلية القديمة، بل قطيعة واضحة مع النموذج القائم على تفكيك الدولة الاجتماعية وتوسيع هوامش السوق على حساب المواطنين. ا يمكن بناء وطن متماسك دون إعادة الاعتبار للعدالة الجبائية، وتعزيز الإنفاق العمومي على القطاعات الحيوية، ووضع حد لتضارب المصالح الذي يُفرغ السياسات العمومية من مضمونها. كما أن إعادة بناء الثقة لا تتم عبر منصات التواصل أو الإعلانات، بل عبر الفعل الميداني، والوضوح في القرار، وربط السلطة بالمحاسبة.
الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يُجدد التأكيد أن مغربًا أكثر عدالة مُمكن، شرط أن نُغيّر الاتجاه، وأن نضع الإنسان قبل السوق، والكرامة قبل التوازنات المحاسباتية. انتخابات 2026 ليست مجرد اقتراع، بل امتحان للذاكرة الشعبية، وفرصة لتصحيح المسار، ومعاقبة الحكومة التي لم تنجح في تنزيل مرتكزات الدولة الاجتماعية، ووقف التدهور الذي بات يمس كل مقومات العيش الكريم.
(*) عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والأخلاقيات بالحزب
الكاتب : محمد السوعلي (*) - بتاريخ : 17/06/2025