مِنْ وحي محاكماتُ ما بَاتَ معروفاً بحراكِ الريف رحم الله القاضي سيدي عبد السلام حادوش…
محمد الفرسيوي
لا شك أن زمنَ هذه المحاكمةِ قد طال، حتى وإنْ كانتِ الإطالةُ تحت مبررِ أو ذريعةِ ضمانِ «المحاكمة العادلة» للمتابعين.
صحيح أن للقضاء كل الحق في أنْ يأخذَ الوقتَ اللازمَ للبث في القضايا المعروضةِ عليه لإصدارِ الأحكام التي تُنْصِفُ المظلوم… بيد أن هذا الملف سياسي بامتياز، والحكم فيه سياسي بامتيازٍ أيضاً…
لقد تابعتُ الموضوع، بما استطعتُ مِنْ اهتمامٍ وحياد، منذُ الشرارة الأولى للاحتجاجات. وقد كتبتُ فيه ما تَيسرَ لي مِنْ القَوْلِ مع تعاقبِ الأحداثِ والمستجدات، وحَذرتُ في إبانه، مِنْ مغبةِ الاستمرارِ في إيصالِ الشعورِ بالغبنِ والظلمِ و»الحكرة» إلى عظمِ المنطقةِ وعظامِ الناس؟
اليوم، وقد صارت هذه الأحداثُ مِنَ الماضي، يُطرحُ السؤالُ التالي؛ لِمَ كل هذا الإصرار على «الحك على الدبْرة»، بتجريدِ شبابٍ ومتابعين من العيشِ خارج أسوارِ السجن، كل هذا الوقت؟ لِمَ الإمعانُ في هذا «التأديب» المنتجِ للألمِ والشعورِ بالغبنِ المضاعف، والذي يطالُ المعتقلين والأسرَ والأهل، حتى لا أقولُ معظمً المنطقةِ أو البلد؟
لا أحدَ مِنَ المغاربةِ العارفين بما يُحاكُ ضد دولِ وأقطارِ أمتنا، مِنْ مخططاتٍ خارجيةٍ تصلُ حد تهديد الوجود، لم يستحضرْ أو لا يستحضرُ مثل هذه المخاطر… ولما كانتِ الذئابُ التي تتحكمُ في العالم تسعى إلى إخضاعِ الدولِ والشعوبِ والمجموعاتِ والبشريةِ بأسرها، لا ترعى الغنمَ أو الأغنام، بل تأكلها بعد أنْ تُسلطَ الجزءَ منها على بعضها… ولما كانتِ الأمورُ كذلك، ألمْ يُسعفنا مَنْ نًتابعُ من شبابٍ، في التنبيهِ إلى معالجةِ مرضِ الذاتِ، قبل أنْ يستشريَ أو يستفحلَ، فيتسربَ منه الوَهَنَ قبل المُتربصين بنا؟
ذلك ما حصل ! ، وأبانَ عن «مشاريع ملكية» عُطلتْ (…)، وعنْ حصيلةٍ مزعجةٍ على صعيدِ الإدارةِ والتدبيرِ والاجتماعياتِ من صحةٍ و»ضيق ذات اليد» و»هجرة بواخر الصيد» وانسدادِ آفاق الهجرة إلى أوربا، وغيرها من الانحصاراتِ الملموسة، التي تُعمقها اللاعدالةُ القائمة وصراعاتُ المصالحِ والبيروقراطيات النهِمَة، العتيقة والصاعدة…
بعض هذه الاختلالاتِ الواردةِ في تقرير المجلس الأعلى للحسابات، وكذا الإعفاءات الملكية التي طالتْ وزراء ومسؤولين مباشرةً بعد التقرير، شكلتْ في حينه صك البراءة العلني لكل المتابعين على خلفيةِ الاحتجاجات… وقد انتظرنا طويلاً- وما زلنا ننتظر !- أنْ يتلقفَ القضاءُ الرسالة، وأنْ يُلقى بمحاضر الضابطة القضائية في دائرة «الحفظ» أو «التحفظ عليها»، وبأنْ يَحكمَ في النازلةِ بما قُضِيَ مِنَ الأسْرِ لفائدة كل الأظناء. وكفى الوطن كله شر تعميق الجراح؟
رحم الله القاضي الألمعي المستقيم الشجاع سي عبد السلام حادوش، وكل التقديرِ لمَنْ مِنْ هذه الطينةِ الأصيلة مِنَ القضاةِ وغير القضاة… في أحداثِ 14 دجنبر 1992 التي اندلعتْ بمناسبةِ الإضراب الوطني، في طنجة (بني مكادة) كما بفاس، والتي وصلتْ حد إحراق مقر الحامية الأمنية… كانتِ الأحكامُ عشوائية وقاسيةً في المرحلةِ الابتدائية، حيث كان وزير الداخلية (إدريس البصري) يُصدرُ الأحكامَ تعليماتٍ للقضاة…
أذكرُ، حينما وصل ملف الأحداثِ لاستئنافية طنجة، أن الأستاذ حادوش كرئيس للمحكمة آنذاك، قام بتعيين ثلاثة قضاةٍ شبابٍ لَمسَ فيهم المروءةَ والاستقامة للحكمِ في هذا الملف الساخن، وقال فيهم؛ «أنتم في بدايةِ مشواركم القضائي… سوف تُعرضُ عليكم حالاتُ العشراتِ في حالةِ اعتقالٍ مِمنْ أدانهم الحكم الابتدائي، وفيهم مَنْ عليه علامة رصاص… لقد كنتم طلبة، وتعرفون تصرفات القوات الأمنية في مثل هذه الأحداث… حَكمواْ الضمير والتحَري النزيه، لا تمتثلواْ للتعليماتِ مهما كان مصدرها… فإما أنْ ترفعواْ رؤوسكم من الأن، وإما أنْ تحنوها من الآن…»
وبالفعل، انهالتِ التعليماتُ على المحكمة وهيئتها خيطاً من الداخلية وغيرها… وصدرتِ الأحكامُ بما يشبه براءة الجميع… وآنذاك، استشاطَتِ الداخلية غاضباً… قال الوزير القوي فيها، وفي سي عبد السلام، كلاماً بنكهةِ سنوات الرصاص… كتبتِ الهيئات الحقوقية الدولية عن المغرب تقاريرَ مفيدة… واسترجع المظلومون بعض الثقة في القضاء.
فأما مِنْ قضاةٍ مِنْ هذه الطينةِ الوضاءة…؟ وأما مِنْ قضاءٍ يَرفعُ عالياً رأسَ العدالةِ ببلادنا…؟
الكاتب : محمد الفرسيوي - بتاريخ : 15/03/2018