هل هو موسم محاربة الفساد؟!

  ذ/جلال الطاهر

ماذا جرى في حياة المجتمع المغربي ومؤسساته المختلفة، وخاصة منها المهنية، أو القضائية أو التمثيلية محلياً وجهوياً ووطنياً ؟
ما هذه الزلازل التي شهدها تحريك مساطر البحث والتحقيق ضد مسؤولين من جميع المستويات التي تكاد تكون شاملة ومتنوعة؟ في وقائع خطيرة، وتجاوزات كبيرة، هذه التجاوزات ليست طارئة، بل تم ارتكابها خلال مدد وفترات طويلة.
هل المؤسسات الموكول لها مسؤولية الاضطلاع بحماية المجتمع، من الجريمة بجميع أنواعها، ومن خيانة الأمانة والتلاعب في المال العام، كانت نائمة واستيقظت اليوم على هذا الكم الهائل من القضايا، التي اصطلح على تعريفها بأنها ناتجة عن واقع الفساد السائد في مفاصل مؤسسات المجتمع المغربي ؟
هل الأصل هو البراءة، قاصر تطبيقه فقط في حق «علية» القوم عندما تجري ضدهم المساطر القضائية ؟
في حين أن ((البراءة هي الأصل)) مبدأ حقوقي ودستوري، لايميز بين متهم وآخر، لماذا أصبح التشكيك في جدية هذه المساطر يكاد يكون عاماً، وأنها سحابة صيف عن قليل تنقشع، هذا الاعتقاد يستقى مضمونه، من سوابق حملات سميت تطهيرية، وأثارت زوابع ضبابية، وأصابت بعض « أكابر» القوم، إلا أن مآلها، كان عودة حليمة إلى عادتها القديمة، كأن ما حدث، كان صرخة، في واد ونفخة في رماد.
هذه الأسئلة، وغيرها تشكل هماً حارقاً لكل من له ذرة من وطنية، أو بالأحرى إنسانية، هذا الواقع أصبح يجسده الخطاب الإعلامي المكرر، والصفحات الأولى للصحافة اليومية المكتوبة، وأحاديث الناس في كل المواقع، ولا يعرف أحد جواباً شافياً لما يجري، ولا ما هي مآلات هذه القضايا التي تنفجر كل يوم، كأن البلاد تحولت إلى حقل ألغام، تتوالى انفجاراته، وتتعدد مواقعه، وأشخاصه كل حين، فممثلوا الشعب، عوض أن يحملوا همـوم المواطنين، وتطلعاتهم بالوفاء بوعودهم، والالتزامات الحقوقية والأخلاقية والدستورية، بعهودهم التي قطعوها على أنفسهم، كالتزام شخصي لم يجبرهم أحد عليه، نكثوا هذا العهد، ومزقوا ميثاقه، ويا ليتهم ظلوا في حدود عدم الوفاء، بل إنهم تجرأوا على حرمات المال العام، وداسوا على أخلاقيات النزاهة، وقيم الوطنية، والأخلاق الدينية، واليمين التي يؤديها البعض بهتانا ونفاقاً، بطريقة قد تعطي انطباعاً على أن الدولة ومؤسساتها قائمة على حماية من يستهين بمصـالح المواطنين، ويتلاعب بها دون حسيب أو رقيب، وما يؤكد هذا الاعتقاد، هو أن القضايا المختلفة، التي تمثل هذه التجاوزات، والتي تنفجر هنا وهناك، في كل الجهات، ومن طرف مسؤولين من أدنى المواقع لأعلاها، والغريب أن هذه الأفعال المجرمة أو جلها كانت موضوع تقارير للمجلس الأعلى للحسابات، ولجان التفتيش المختلفة، وتشكيات المواطنين، ومقالات الصحافة، منذ زمن بعيد، ولم يلتفت إليها أحد إلى اليوم، حتى اعتقد من قاموا بها، أنهم في أعلى عليين في مواقع استثنائية، لا تطالها يد القانون، باعتبار هؤلاء يعتقدون أو يتوهمون، أن سلطة القائمين على تطبيقه، مقتصرة على البعض، وقاصرة عن أن تطال رقاب البعض الآخر، حيث تصبح سلطة القانون ويده « مغلولة « وفاقدة للفعالية والتفعيل.
هذا في الوقت الذي يوجد تشريع– ومؤسسات قضائية – يغطي ويسد كل منافذ الإفلات من المحاسبة، ومساطر واضحة وجلية، ترسم الطريق وتضع القواعد الواضحة والدقيقة، لحماية المجتمع ومصالحه- المالية والاقتصادية-، من سفاهة بعض المسؤولين، (كلمة مسؤولين تجاوزاً) لأنهم عندما يرتكبون فعل العبث بالأمانة، تكبر في حقهم هذه الكلمة، لأن الأمانة، المعروضة على الإنسان مصدرها الحق سبحانه قبل البشر: ((إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جهولاً…)). ولعل الفئات التي يجري الحديث عنها، خرقت قدسية الأمانة الإلهية التي شرف بها الإنسان، بعدما تهيب منها الكون كله تقريباً، وبدل أن يوفوا بعهد تحملها، تحت الرقابة الإلهية دينياً، والمحاسبة الدنيوية قانونياً وقضائياً، استهانوا بكل هذا، وزاغوا عن السبيل القويم، وتوهموا أن هناك حماية دائمة تقيهم شر المحاسبة، وتفعيل التشريع في جميع مستوياته، وفي مقدمتها الدستور بنصوصه وروحه، الذي يكفي الإشارة فقط، إلى الفقرة الثانية من الفصل الأول من المبادئ العامة:((… يقوم النظام الدستوري على أساس فصل السلط، وتوازنها، وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة…)).
فالمتتبع لهذه القضايا التي تنفجر اليوم، وتأخذ زخماً جديداً في المعالجة والتصدي، بعد فترة من التراخي في تحريك براكينها الراكدة، وفضائحها النتنة، مما قد يطرح تساؤلات، حول هذه الدينامية الإيجابية والمطلوبة، أهم هذه الأسئلة هو أن سلطات الدولة المختلفة، من مسؤوليتها وواجبها، التصدي لهذه الظواهر المخلة بتدبير الشأن العام،والتلاعب بالمصالح الوطنية في حينها، وداخل أجل معقول من حدوثها، وتقديم ملفاتها إلى القضاء، الذي عليه أيضا أن يبت طبقا للمبادئ والمساطر القضائية بجدية وحزم، طبقاً للقانون الذي هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له، وحتى تزول مقولة، أن القوة (مال، أو نفوذ)، هو القانون الذي يسود، في حق علية القوم، الذين يحظون بالحماية، التي توصلهم إلى المواقع، في أرقى مراتب المسؤولية في الدولة، رغم ضعف إمكانيات البعض المعرفية، ووضاعة سجلهم الأخلاقي، وأحياناً حتى وساخة سجلاتهم القضائية…
إن الأحوال العامة بالبلاد، والقضايا المطروحة، في موضوع تخليق الحياة العامة، بكل صورها، والاستمرار في هذا الطريق إلى نهايته بجدية ونزاهة، ضرورة وجودية، مع الحرص على حماية حقوق الإنسان، وضمانات حقوق الدفاع في أدق تفاصيلها، مع الحرص على استرجاع الأموال العمومية المنهوبة، إلى الخزينة العامة، أين ما كانت، وحينما وجدت.
هذا، إذا كانت الإرادة والرغبة صادقة في جعل حد للفساد، الذي بدأ توطيد أركانه في مفاصل المجتمع، وبعض مؤسساته التمثيلية الوطنية، والجهوية والمحلية، ويتمدد في عقول العامة، حتى لا يصبح عقيدة وقناعة، يجري التعامل على أساسها، مكتسبا مناعة ((المشروعية)) الواقعية المجتمعية.
وبغير ذلك، وباستمرار حماية الفاسدين يستمر هذا السرطان، في اختراق مناعة المجتمع ضده، وبذلك تبقى هذه ((القومة))الحالية مجرد صيحة في واد، أو نفخة في رماد.

الكاتب :   ذ/جلال الطاهر - بتاريخ : 17/06/2023

التعليقات مغلقة.