هَلْ نَصْعَدُ الأَدْراجَ؟
رائِحَةُ القَهْوَةِ تَفْكيرٌ،
ولا بُدَّ مِنِ اعْتِقالِ قِطْعَتَيْ سُكَّرٍ في القاعِ.
التَّحْريكُ يُفْضي إِلى ذَوَبانٍ تامٍّ،
والشَّفَتانِ تَعُضّانَ السّائِلَ الأَسْوَدَ بِمَحَبَّةٍ،
ولَكِنَّ صديقي يُصِرُّ على سُؤالِ المَرْأَةِ:
أَنا مِنْ شيشاوَةَ،
أُنَظِّفُ الغُبارَ العالِقَ بِجُثَّةِ الزَّمَنِ،
وفي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ أُغادِرُ..
هَلْ كان صديقيٌ مُدْرِكاً بِأَنَّ لَحْمَ المَرْأَةِ مالِحٌ؟
وأَنَّ الدُّخولَ إِلى مَمَرّاتِ جَسَدِها العَجوزِ غَيْرُ آمِنٍ؟
ولَكِنَّهُ يُصِرُّ على الابْتِعادِ عَنْ جَحيمِ الشَّهْوَةِ،
غَيْرَ آبِهٍ بِالمِكْنَسَةِ التي بِيَدِ المَرْأَةِ؛
المِكْنَسَةِ التي تَجْرِفُ بِها غُبارَ الزَّمَنِ؛
الغُبارَ العالِقَ بِالجُثَّةِ؛
جُثَّةِ أَيِّ واِحِدٍ مِنّا نَحْنُ الثَّلاثَةَ؛
أَنا السّارِدُ عابِرُ سَبيلٍ،
أَوْ صديقي الفاتِحُ المُظَفَّرُ لِتَضاريسِ مازَكانَ،
أَو الذي يُفَتِّشُ عَنِ اليَماماتِ،
وهِيَ تُحَلِّقُ فَوْقَ أَشْجارِ الواتْسابِ..
في مَقْهى GAMA
نَسْتَطيعُ أَنْ نَرى العالَمَ عارِياً مِثْلَ خَيالٍ يَسْتَحِمُّ.
لا يَهُمُّني الانْشِغالُ بِدُموعِ السُّكَّرِ الذي ذابَ.
أَنا أَيْضا أَذوبُ في جَحيمِ الإيدْيولوجْيا،
وصديقيِ يَبْتَسِمُ لِظَبْيَةٍ تَنِطُّ فَوْقَ أَعْشابِ الواتْسابِ،
قالَ انْظُرْ، هَلْ رَأَيْتَ الشَّمْسَ؟
كانَتِ الظَّبْيَةُ غَيْرَ فَزِعَةٍ،
لِذَلِكَ أَقْنَعَها صديقي بِأَنَّهُ لَيْسَ مَغولِيّاً،
ولَيْسَ قَنّاصاً يُطْلِقُ النّارَ على خَيالِ الغابَةِ،
ولَيْسَ شُرْطِيّاً مُكَلَّفاً بِاعْتِقالِ الحَمامِ،
وإنَّما هُوَ طِفْلٌ قَدْ تَجاوَزَ الثّلاثينَ،
يُحِبُّ أَنْ يَمْتَطِيَ حِصاناً خَشَبِيّاً مِنْ أَحْصِنَةِ السِّرْكِ،
حَتّى إِذا أَوْشَكَتِ الشَّمْسُ على الغُروبِ،
وَدَّعَ الحِصانَ ومَضى سَريعاً،
لِيَزْرَعَ بَعْضَ النُّجومِ في لَيْلِ الواتْسابِ..
الشَّمْسُ لا تُشْرِقُ لَيْلاً،
القَمَرُ لا يشْرِقُ نَهاراً..
لا تَنامُ النّادِلَةُ أَبَداً. تَكْنِسُ الحَشَراتِ التراجيدِيَّةَ التي لا تُرى بِالعَيْنِ المُجَرَّدَةِ. النّادِلَةُ تَتَخَشَّبُ، تَتَحَجَّرُ، تَتَحَوَّلُ إِلى تِمْثالٍ يَسْتَقْبِلُ الزَّبائِنَ الذينَ لَمْ يَعودوا في حاجَةٍ إِلى قَهْوَتِها وسَجائِرِها، لِذَلِكَ صاروا يَكْتَفونَ بِرَمْيِ الأَزْهارِ على جَسَدِها التِّمْثالِ، وأَحْياناً قِراءَةِ ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ.
كُنْتُ ذائِباً تَماماً،
يَدُ الواقِعُ تُحَرِّكُني فَأَسْتَسْلِمُ وأَذوبُ دونَ مُقاوَمَةٍ،
وقَبْلَ أَنْ أَلْفَظَ أَنْفاسي الأَخيرَةَ تَساءَلْتُ:
مَنْ أَنا؟
عابِرُ سَبيلٍ ضَلَّ في الغابَةِ،
أَمْ سارِدٌ حُكِمَ عَلَيْهِ بِمَلْءِ الوَرَقِ،
أَمْ قِطْعَةُ سُكَّرٍ يَتيمَةٍ تَموتُ في قَرارَةِ الكَأْسِ؟
مَنْ أَنا؟ مَنْ أَنْتَ؟ مَنْ أَنْتِ؟ مَنْ هُوَ؟ مَنْ نَحْنُ؟ المُتَكَلِّمُ أَمِ المُخاطَبُ أَمِ الغائِبُ؟ مَزيجٌ كيمْيائِيٌّ بَيْنَ الأَنْقاضِ وتَوْأَمِها الشَّبيهِ. لا يَهُمُّ، وكُلُّ ما هُوَ مُؤَكَّدٌ هُوَ أَنَّني حينَ أَموتُ لَنْ يُدْفَنَ أَحَدٌ آخَرُ بَدَلاً عَنّي!
الآنَ أَدْرَكْتُ أَنَّني لَسْتُ أَنْتَ ولَسْتُ هُوَ،
أَنا العلاقَةُ المُتَشَظِّيَةُ بَيْنَ حَجَرِ الرُّكامِ،
وبَيْنَ ما تَبَقّى مِنْ حُبٍّ قَديمٍ تَحْتَ الأَنْقاضِ!
GAMA
الكاتب : المصطفى ملح
بتاريخ : 20/09/2019