التجديد أم الإقصاء؟ حين يُساء فهم التناوب في السياسة

الاتحاد الاشتراكي

في كل محطة تجديد تنظيمي أو مؤتمر حزبي، يتكرّر السؤال نفسه في النقاش العمومي : هل ما جرى تجديدٌ أم إقصاء؟
ويُستدعى، في الغالب، قاموس أخلاقي جاهز: نكران الجميل، التخلي عن مناضلين قدامى، قطع مع التاريخ، لكن هذا السؤال، بصيغته المتداولة، سؤال مضلِّل، لأنه يفترض ضمنيًا أن المواقع القيادية حقوق مكتسبة، وأن الاستمرار فيها هو الأصل، بينما المغادرة استثناء يحتاج إلى تبرير، غير أن السياسة، إذا أُخذت بمنطقها العميق، لا تُدار بهذه الطريقة.
والقيادة في التنظيمات الديمقراطية ليست امتيازًا دائمًا، ولا مكافأة عن مسار سابق، بل دور مؤقت مرتبط بلحظة سياسية وتجربة تنظيمية محددة.
من يُغادر موقعًا قياديًا لا يُقصى، كما أن من لا يُعاد انتخابه لا يُظلَم. ما يحدث ببساطة هو انتقال للأدوار، كما يحدث في كل مؤسسة حيّة.
هذا الفهم للقيادة، بوصفها وظيفة لا ملكية، يستند إلى منظور سوسيولوجي مستوحى من سوسيولوجيا التجربة، حيث لا تُستمد الشرعية من الماضي وحده، بل من القدرة على التفاعل مع رهانات الحاضر وقيادة تجربة حيّة داخل سياق متحوّل.
ومن المفارقات التي يغفلها الخطاب السائد أن كثيرًا ممن يُقدَّمون اليوم كـ“ضحايا الإقصاء” كانوا هم أنفسهم، في مرحلة سابقة، وجوهًا جديدة دخلت القيادة لأن غيرها غادرها.
هذه الدينامية ليست استثناءً، بل قاعدة تاريخية في كل التنظيمات السياسية الحيّة: جيل يصعد، يشتغل، يترك أثره، ثم يفسح المجال لغيره. لكن حين يصبح “الجديد” قديمًا، يُراد للزمن أن يتوقف، وللتجربة أن تتجمّد، وكأن التداول كان مطلوبًا فقط… إلى أن يصل الدور إلى أصحابه الحاليين.
ولا أحد يُنكر قيمة التاريخ النضالي ولا أهمية الذاكرة السياسية. فالأحزاب بلا ذاكرة تنظيمات بلا معنى.
لكن الفرق كبير بين التاريخ بوصفه ذاكرة مشتركة، والتاريخ بوصفه سندًا للوصاية.
التاريخ مورد للتعلّم، لا صكّ ملكية .يُنير الحاضر، لكنه لا يحكمه، وحين تُستعمل “الشرعية التاريخية” لتبرير الاحتفاظ الدائم بالمواقع، يتحول التاريخ من رصيد جماعي إلى أداة إقصاء صامتة للأجيال الجديدة.
ومن منظور سوسيولوجي، فإن التجربة السياسية لا تُمتلك بالذاكرة، بل تُعاش في الحاضر.
من يوجد داخل التجربة التنظيمية اليوم، ويتحمّل رهاناتها وتناقضاتها، هو من يملك حقّ قيادتها وصوغ معناها، أما من عاشها في زمن سابق وغادرها، فيملك الذاكرة، لا القيادة.
تحويل التجربة إلى “ملكية رمزية” يشبه التعامل مع التنظيم كما لو كان رسمًا عقاريًا: شيء ثابت، قابل للتوريث، لا للتجديد. وهذا نقيض السياسة، ونقيض الاجتماع.
و جزء من الإشكال يعود أيضًا إلى طبيعة التغطية الصحفية، التي تميل إلى:
• الشخصنة بدل تحليل البُنى.
• التركيز على “من خرج” بدل السؤال: كيف ولماذا دخل غيره؟
• البحث عن الإثارة بدل تفكيك منطق التناوب.
فالصحافة تتساءل عن عشرات الأسماء التي غادرت، لكنها نادرًا ما تسأل عن مئات المناضلين الذين لم يصلوا يومًا إلى الأجهزة القيادية، ولم يُعتبر غيابهم ظلمًا أو إقصاءً.
وهنا يظهر الخلل: القيادة ليست تمثيلًا حسابيًا للجميع، ولا تعويضًا رمزيًا عن كل المسارات.
ويزداد هذا الخلل وضوحًا حين نلاحظ أن بعض الأسماء التي يُتباكى عليها اليوم باعتبارها “ضحايا الإقصاء”، كانت في مراحل سابقة من أبرز المدافعين عن منطق الإقصاء نفسه حين كان موجَّهًا ضد آخرين.
هذا لا يعني محاكمة أشخاص، بل تفكيك خطاب: فغالبًا ما يتغيّر الموقف من “الإقصاء” بتغيّر الموقع داخل التجربة، لا بتغيّر القناعة بالمبدأ.
إنه منطق انتقائي يُحوّل الدفاع عن الديمقراطية إلى دفاع عن الموقع، ويُلبس الصراع على الأدوار لباسًا أخلاقيًا جاهزًا.
والتجديد ليس نقيض الوفاء، بل شرطه، والتناوب ليس قطيعة مع التاريخ، بل طريقته الوحيدة للاستمرار.
تنظيم لا يُجدّد نُخبه، ولا يفتح القيادة أمام كفاءات جديدة وأجيال صاعدة، هو تنظيم يحكم على نفسه بالانغلاق، مهما رفع من شعارات.
ليس كل خروج إقصاء، ولا كل تجديد تنكّرًا للتاريخ.
القيادة تناوب، لا تَملُّك.
وكل “قديم” كان يومًا “جديدًا” حلّ محل غيره، وسيحلّ غيره محله حين تتغيّر التجربة وتتبدّل رهاناتها.
بهذا المعنى، فإن النقاش الحقيقي الذي يجب أن يُطرح ليس:
من خرج؟ بل: هل نرفض الإقصاء كمبدأ أم فقط حين نكون ضحيته؟
وهل نملك الشجاعة لترك التجربة حيّة، أم نفضّل تجميدها باسم الماضي؟

الكاتب : الاتحاد الاشتراكي - بتاريخ : 22/12/2025