آيت بوكماز: المغرب الذي لا يسير! 1

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
أولا: يسجل عن مسيرة الألف ميل من آيت بوكماز إلى بني ملال أنها كانت سلمية وتمت في أجواء هادئة ووسمتها المسؤولية، وخرجنا جميعا منتصرين!
وهذه لوحدها شهادة نضج، في حق المحتجين الغاضبين والسلطات والأمن!
ثانيا: خرج سكان آيت بوكماز، وبدأ التساؤل غير البريء: لماذا خرجوا؟ ولماذا الآن ؟ والحال أن السؤال المعقول والمنطقي: هو لماذا خرجوا لوحدهم، ولم تخرج كل الدواوير والبوادي التي تشبههم في درجة الصفر في الوجود، ومن حسن حظنا أن ذلك لم يتم !!؟
هم أيضا ترابهم مُجْهدٌ مثل تراب آيت بوكماز في أعالي الأطلس، فوق البحر بـ2000كلم، ذلك لأن المطالب التي دفعتهم إلى السير نحو العمالة، تدعو إلى الشعور بالضيق عند كل النخبة في البلاد، وهي تعيش مغرب القرن الواحد والعشرين!
ثالثا: لماذا خرج رئيس الجماعة معهم وهو من هو؟
والجواب فعل خيرا أن خرج مع الغاضبين لأننا نعرف بأن حدود وخطوط الجماعات من خارج التغول الحاكم، في التنمية، ضئيلة ؟ ولماذا لا يخرج إذا كان وزراء في الحكومة أنفسهم يتحدثون وكأن لا علم لهم، ولا قدرة لهم على التغيير المؤسساتي، عن هدر ملايير الدراهم لفائدة الشناقة في استيراد اللحوم، وفي الاستثمارات المربحة، وفي مناصب الشغل المستحدثة ضمن برامج مثل «فرصة» وغيرها، ثم يعلنون عجزهم على رؤوس الأشهاد؟ لقد قلناها في وقتها بأن ذلك دعوة للشعب للخروج إلى الشارع!؟
ليس من حقنا أن نثقل حقيقة الوضع الذي أدى إلى المسيرة بسؤال النوايا، و»دمياطي « الانتخابات، والحال أن الواقع فيها وفي المناطق المشابهة لها، صارخ وشفاف وواضح!
والجميع صار يعرفه اليوم، بل إن المسيرة لا يمكن بأي حال أن تكون ذريعة لمن لا يرى في المغرب سوى الحاجة والفقر.
والمسيرة أسلوب وليست تشكيكا في السلطة، بل رسالة إليها واستنجادا بها، حتى وإن كانت صرخة جسدت الخروج عما تعاقد عليه المغاربة في القوانين المنظمة للعلاقات بين السلطات والتدبير الحر.. فأشياء كبيرة وكثيرة وحاسمة تم إنجازها، وفي الوقت ذاته لا يمكن أن تمَّحي المسيرة من المشهد ويتم استصغارها أو شيطنتها لأنها فضحت واقعا قائما، بل يمكن أن نشكر الذين خرجوا لأنهم «دقوا الخزان « الترابي الذي يعيش فيه الكثير من المهمشين.. ونشكر المسيرة لأنها جاءت لتوقظنا نحن الحالمون بأن هناك معضلة حقيقية، وإن كنا نؤمن بأن العهد الجديد دشن لسياسة الحقيقة، ولطالما حرضنا عليها، مهما كانت مُرَّة، وتعلمنا معه بأن عين الحقيقة لا تحتاج إلى كارثة لكي ترى !
أيقظنا شيوخ شباب نساء وأطفال آيت بوكماز، وجماعة تبانت، من بحبوحة الأخبار الجميلة:
مسيرة المقر الصحي تزامنت، يا لمكر الحقيقة! مع مثول رئيس الحكومة، وهو يتحدث منتشيا بالأرقام حول الصحة، وحول المستشفيات التي تنبت أكثر من الفطر ولا تسعها خارطة المغرب.. وأن أي متحدث لا يرى ذلك فهو من زمرة الحاسدين!
كانت المعارضة تصرخ بأعلى صوتها: هناك خطر يتهدد المستشفى العمومي، ونحن نرى أن 93٪ من تمويلات المواطنين تذهب إلى الخواص وأن المؤسسة العمومية لا يبقى لها سوى فتات 7٪، فكانوا يستقوون عليها بأنهم يسيرون على هدي الحقيقة!
جلالة الملك : رسم مستقبل العلاقات المغربية الفرنسية وفق منظور استراتيجي بعيد المدى
في المدينة تجد المستشفيات صعوبة في الوجود بسبب منافسة القطاع الخاص، فما بالك،هناك، في أعالي الجبال، وفي فجاج الشرق الحارة وفي براري الشمال الشاق!
المسيرة لا شك أنها أحرجت كذلك الكثير من الوزراء، وقد كانت وزيرة الانتقال الرقمي منشرحة وتعدد أمام العالم ما صرنا عليه في الزمن الإلكتروني والزمن القادم، مرتاحة وهي تضع، أمام القادمين من دلوك العالم إلى غروب الخريطة، سعة بيتنا في عالم الذكاء الاصطناعي.
وكان الوزير المكلف بالشباب والثقافة والتواصل سعيدا بن سعيد !، وهو يبشر الشبيبة المغربية بمتعة الفيديو وخراجه من الأرباح، ويبشرها بموقع رفيع في الترفيه الدولي الذي يجلب الحـظ!
كل هؤلاء لا شك أنهم تبرموا عندما جاء من أقصى المدينة حشد يسعى نحو قليل من كل ما قيل في الرباط على لسان الوزير والوزيرة ورئيس الوزراء، كلهم !
حشد أغبر، أشعث، من المغرب البعيد، عليه مظاهر وعثاء السفر..! جاء حاجا إلى أطراف الطريق، يسير جماعات وفرادى ليوصل صوته: صوته الذي لم يصل منذ … عهد الموحدين…
ومنذ عهد ما قبل الأنترنيت، وما قبل شق الطرق وما قبل الوندال..
جاؤوا مجهدين ومُجهدُ ترابهم..
ـــ
كنا نتابع بانتشاء دخولنا عصر الغذاء الاصطناعي لعقولنا، وغارقين في إعلاء الانتقال الرقمي إلى رتبة النيرفانا، ترددها على مسامعنا وزيرة الحكومة المكلفة بالمستقبل !
كنا خارجين من مناظرة جمعنا إليها 35 دولة و200 شخص و2000 مشارك جاؤوا لتقريب الذكاء الاصطناعي من المغاربة…
عندما أيقظنا سكان آيت بوكماز، من الأطلس في تراب أزيلال، من سباتنا السبرينيتيقي اللذيذ.
كانوا بالعشرات خرجوا كي يصرخوا: لسنا على ارتباط بهذا العالم.
نحن من خارطة ما قبل اكتشاف الهاتف والأحجار الإلكترونية المباركة…
فجوة كاسرة بين دوار يبحث لنفسه عن بوابة للعيش البسيط، لا الذكاء الخارق، ومغرب في الأنترنيت بأحلام العواصم، السياسية والإدارية والاقتصادية والروحية، في البحث عن مكان في كوكب المستقبل.
الذين جاؤوا إلى الطريق، نحو بني ملال، يعيشون في زمن ما قبل اكتشاف الصبيب الإلكتروني وقبل الصبيب الصحي…
لا ليسوا قادمين من مكان… بوكماز فقط
بل إنهم قادمون من زمان ما قبل العصر الموحدي!
منذ ما قبل بداية التاريخ الصحي في المغرب
العودة إلى ما قبل المولى يعقوب المنصور
إلى ما قبل زمن «دار الفرج» الصحية ..
ليس ما قبل الحماية وأول مستشفى عسكري في 1911 ..
لا.. التقويم الموحدي يليق بنا..
ذلك لأن أول نظام صحي في المغرب ظهر خلال الدولة الموحدية – القرن الـ12 الميلادي-، عندما أمر السلطان الموحدي يعقوب المنصور ببناء أول مستشفى متكامل متطور وأطلق عليه اسم «دار الفرج»، وسُجل في كتب المؤرخين باسم «بيمارستان» بمدينة مراكش.
ويذكر المؤرخون بأن «دار الفرج» كان بها كل أنواع «الفرش النفيس كالصوف والكتان والحرير وغير ذلك، حتى زاد على الوصف، وأتى فوق النَّعْت» وأجرى له ثلاثين دينارا في كل يوم «وجلب إليه الأدوية، وأقام فيه الصيادلة لصناعة الأشربة والأدهان والأكحال، وأعدّ فيه للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم»….
كنا قد سلمنا، بغير قليل من القدرية، بأن بلادنا تسير بسرعتين: سرعة «التي جي في» وسرعة قطارات الفحم الحجري..
كنا ننتظر أن تزول قطارات البطء الكئيبة ونلتحق جميعا بمغرب السرعة الكبرى.
المغرب الذاهب إلى «التي جي في»
الذاهب إلى أدغال إفريقيا..فإن هناك مغرب لا يسير
إلا إذا خرج مشيا على الأقدام في مسيرة احتجاجية!
كنا نحلم عن حق، والريح تلعب بخصلات شعرنا وتلعب براياتنا الجميلة تشق عباب الصحراء …
ولم ننس، لكننا كنا غارقين في حلم جميل، كما لو أننا في بطاقة بريدية لأحلامنا الوردية الملونة حتى أيقظتنا قرية اسمها آيت بوكماز…
كنا غارقين في أحلام المستشفيات الكبرى وأرقام رئاسة الحكومة، لكن شوشت على رئيس حكومتنا قرية تريد مركزا صحيا فقط، طبيبا واحدا فقط…
من كل تلك الأرقام وتلك المنتجات، كان الناس يريدون فقط طبيبا ومركزا يتمددون فوق سريره عندما يصابون بالحمى أو بوحمرون أو تخونهم الصحة في مناسبة ما..
آيت بوكماز: ليست حالة معزولة!
دواوير وقرى وبوادي كثيرة لا تتمتع بأي وجود صحي.. وجولة صغيرة في المغرب الشرقي والشمال الشرقي والجنوب الشرقي ستفزع من له قلب وله عين!
والحل الذي أبدعه العقل الراجح للدولة من خلال الجهوية قتلته الحسابات السياسية: كان من الممكن أن يخرج الكثير من رؤساء الجماعات في جهة الدارالبيضاء- سطات في مسيرات، بعد أن حرمتهم سطوة التغول من حقهم في الطرق والمسالك الطرقية التي تم توزيعها بين ثلاثية القرار !
وكان ممكنا أن تخرج ساكنة تاوريرت وجماعاتها لنفس الغرض، كما كان من الممكن أن تعود قرى أخرى إلى الشارع لتعري عن وضع يزداد ضيقا مع كل صيف، وهي حالة تبقي غضب ساكنة أخرى من المغرب حيا، في الريف وفي الشرق وفي الجنوب !
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 15/07/2025