أليون صال: عقل إفريقي في أصيلة

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
في أصيلة، حيث كانت القارة الإفريقية تفكر في نفسها من خلال مفكريها وديبلوماسييها، يستحيل أن تتابع ما يقوله «أليون صال»، بدون أن يداهمك عبد الله العروي، الفارق يكاد يكون جوهريا من حيث الموضوع والمنهجية، لكن يخيل إليك أنك ستسمع للأول في حده الثاني عند الحديث عن «ثقل التاريخ»، في تطور الفكرة الخاصة بالدولة الوطنية وبوقائعها.
أليون صال، الذي يدير معهد المستقبل الإفريقي، مجموعة تفكير في قضايا القارة المتواجد في بريتوريا بجنوب إفريقيا، وقبله كان قد أمضى مسارا متنقلا ضمن برنامج الأمم المتحدة للتنمية.. جعله يتقلد مهام متعددة كمنسق إقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الخاص بمستقبل إفريقيا ومدير مكتب المدير المساعد لبرنامج الأمم المتحدة ذاته، ومدير مكتب الاتصال للبرنامج في إفريقيا الجنوبية في سنتي 93و 95 . ولعل هذا المسار تقاطعت فيه الاهتمامات التي برزت بوضوح في تدخله الذي جمع بين أسئلة الانفصال وبين قضايا الاستشراف المستقبلي والانتقال الديموقراطي، وما له علاقة بالحكامة السياسية والعلاقات الاقتصادية الدولية والاقتصاد السياسي في البلدان الافريقية.. إضافة إلى السوسيولوجيا والعلوم السياسية.
ولا يقف استحضار العروي عند النظرة الشمولية واستحضار التاريخ في بناء الدولة والذات الجماعية المرافقة لها، بل يتعداه إلى تقابلات عميقة، وعندما يتحدث العروي في كتاب «الفلسفة والتاريخ» عن الجيو تاريخ يقابله عند أليون صال «الجيو سياسة».
وكلاهما يرى أن في مشروع فشل الدولة الوطنية، بالمعنى الواسع، كما بالمعنى الضيق، لا أحد يجادل في وجود أسباب خارجية.
في الدبلوماسية المطلوب المهارة æاللباقة!
في الاقتصاد والمجتمع مطلوب الانسجام!
وفي الثقافة مطلوب الشجاعة!
في الجلسة الثانية، التي ترأسها وزير الخارجية السابق في دولة موريتانيا، الداه احمد ولد سيدي احمد، وضع أليون أطروحته حول الانفصال وأسبابه بناء على جدارية واسعة، في الزمان والمكان بدأها بتأثيرات النظام والفوضى في عالم اليوم، وتأثر إفريقيا بهما عبر خمس مراحل.
مرحلة النظام العالمي كما أفرزته معاهدات صلحُ وستڤاليا أو سلامُ وستڤاليا الذي بدأ منذ 1648!
ودام 3 قرون، قبل أن يترك مكانه للنظام العالمي الجديد المنبثق من الحرب العالمية الثانية والذي دام أربعة عقود، ويترك المجال للنظام الأحادي القطب بقيادة أمريكية محتكرة، أبرزت القوة العظمى المهيمنة¡ تلاه النظام المتعدد الأقطاب بميلاد القوة الصينية وصعود روسيا قبل أن نصل، في نظر أليون صال إلى العالم الحالي وهو عالم مفارق paradoxal سمته الرئيسية عجز القوة impuissance de la puissance; ¡ لا وجود فيها لقوة تهيمن لوحدها ولا معسكر واضح المعالم، وبعضهم يسميه عالم بلا Ãقطاب apolaire ديموقراطيته لا ليبرالية illiberal
ومن هنا صعوبة تسمية العالم، وعندما يحدث ذلك نزيد إلى بؤس العالم كما كان ألبير كامو يقول…..
ولعل ميزاته الكبرى حسب السينغالي الجنوب إفريقي هي تعقد الانتقالات وتسارع التاريخ.. وفي تاريخ القارة، لم يحدث الاندماج الكلي في هذه المنظومة العالمية بل كان هناك اندماج سيء، ثبتت عنه حقيقة جيواستراتيجية هي الحدود الموروثة عن الاستعمار.
أما الانفصال في هذه المنظومة كما وصفه صاحبه فهو شبيه بانزلاق القارات، بحيث يصبح الاستقرار جسدا من النظام وليس بنية طارئة أو فقط بنيوية…..
لقد اكتشفت في تلك العودة، أن المستقبل ميدان الحرية، ولا شيء قد حسم وأن علينا أن نقطع مع المسلمات التي تجعل من الحرب موردا اقتصاديا، وتجعل من السياسات الانقسامية تتعدد وتخلق تبريرات الانفصال .
لقد أبدع الشقيق الأصغر للرئيس السينغالي الحالي صال في التعبير عن النزعة الانفصالية التي حدد كل دوافعها، ووصفها في لحظة من لحظات التحليل بوصف «الشركات المتعددة الجنسية»، وقال إنهما معا، الانفصال والشركات المتعددة الجنسية لهما نفس الفلسفة في اعتبارها الحرب موردا استراتيجيا لهما، وأبدع عندما قال إن السبب الرئيسي في كون كلفة الفرص الانفصالية قد انخفضت ولم تعد الكلفة كبيرة كما في بناء دولة، مع وجود اقتصاديات الحرب ذات المردودية.
ولم يجد المحاضر بدا من قول الصراحة لجزء من نخبة العالم الغربي، عندما اعتبر أن «الانفصاليين وجدوا آذانا متواطئة في المحفل الدولي باسم الحرية تارة وباسم حرية الشعوب تارات أخرى، وباسم الحقوق الثقافية في مرات ثالثة»، الشيء الذي جعل رسالة الانفصال تمر بسرعة وتسوغ الانشقاق عن المجموعة الوطنية.. واقترح أليون صال تفكيكية جاك ديريدا كطريقة من بين طرق أخرى في المواجهة الذكية للانفصال بفهم الواقع القائم واقتراح سياسات أقوى من سياسات الانفصال….
لقد سعدت وأنا أعود إلى مقاعد الصف الإفريقي وأنصت بإمعان، شبيه بالسعادة، إلى عقول إفريقيا تتحدث من مستويات عليا حالمة وواقعية في نفس الوقت، وكان لا بد لي بأن أقدم نقدا ذاتيا نزيها يخص ما كنا قد راكمناه من مفاهيم نقدية وأخرى هجومية عن منتدى أصيلة وعن مجهود صاحبها بن عيسى في بناء هوية ثقافية بقرية بحرية جميلة للغاية وفاتنة.. لقد كان صاحب المنتدى على حق، وأصبح نموذجا في تحويل الثقافة إلى وقود حضري ومدني وترابي بل إلى موعد قاري تنبت في مشاتله الأفكار الكبرى والمنظومات السخية للفكر.
منذ أربعين سنة كان المرحوم مولاي احمد العلوي قد كتب في يومية لومتان : أصيلة ، النموذج! كما تحتفظ بألوان ذاكرة وزير خارجيتنا السابق، وأعتقد بدون تواضع مزيف أنه يمكن إعادة كتابة العنوان ذاته بالحكمة ذاتها وبالإنجاز نفسه، وقد تعتق أربعة عقود…
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 21/10/2022