أَكُلُّ هذا القتل من أجل تجويد شروط التفاوض؟

عبد الحميد جماهري

صدقت الحدوسات التي كانت ترى أن وقف إطلاق النار ليس بالقوة التي تمكنه من الاستمرار، وسط حسابات الأطراف المعنية به مباشرة «حماس وإسرائيل» والأطراف المتضررة من عواقبه، وإن بدرجات وطبيعة متفاوتة «الفلسطينيون، ومصر، والأردن»…
واتضح أن قرارات القمة العربية في القاهرة ستخضع لامتحان عسير، يتمثل في مدى قدرة الاتفاق على الصمود، واستمرار عمليات تبادل الأسرى والرهائن، ومواصلة مسارات التفاوض بشأن الإعمار. ثم في حصول تطور في الموقف الأمريكي من خطة مصر التي أصبحت خطة العرب بخصوص التهجير المقترح.
هذا الفقير لجنة ربه ورحمته كتب يوم 15 فبراير: يا إلهي، لماذا يساورني القلق أن شيئًا تراجيديًا يوشك أن يقع؟
إما لخلط أوراق المرحلة الثانية من اتفاق الهدنة في غزة، وإما لتسويغ التهجير القسري كهدف تم تحديده بواسطة كارثة.
من هنا، تبدو عودة الحرب على العزل الصائمين، بشيوخهم وأطفالهم، أكبر من مجرد عملية عنف وحشي؛ يراد منه خلق شروط تفاوضية أفضل للمفاوض الإسرائيلي.
عودة الحرب معناه نسف المقترحات العربية من أساسها..معناه أيضا تسفيه الإجماع العربي حول خطة مصر، وإعادة خلط الأوراق بالدم والأنقاض والدموع، لتظل الكلمة الوحيدة هي كلمة الفاشيست الإسرائيلي مسنودا هاته المرة بالديبلوماسية والحرب الأمريكيتين معا وفي نفس اللحظة.
وللحقيقة، كانت الأولوية المتحدث عنها هنا حاضرة في ذهن الديبلوماسية المغربية، كما كتبنا في 6 مارس الجاري، بعد القمة حول ضرورة تأمين وقف إطلاق النار الحالي لأن انهياره يعني سقوط كل شيء والعودة إلى الصفر العسكري، وهو ما نبه إليه بيان القمة، واعتمدته الديبلوماسية المغربية الرسمية في قراءة وتأطير قرارات هاته القمة. ولعل تصريحات ناصر بوريطة كانت واضحة وتندرج في قراءة السياق، وتوفير شروط تغيير عوامله التي نتجت عن حرب الاعتداء القاتل والهمجي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني أزيد من عام، ولهذا قال: قبل الوصول إلى مرحلة إعادة الإعمار، يجب تثبيت وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، والانتقال للمراحل المقبلة في اتفاق وقف إطلاق النار، ثم المرور إلى وقف دائم للاعتداءات…
بعد سقوط رهان استمرار اتفاق الهدنة، على الأقل إلى حدود كتابة هاته السطور، لم تعد المراهنة على تفهم البيت الأبيض لمخرجات القمة العربية في جدول الاحتمال: لقد قامت إسرائيل بالهجوم بموافقة الرئاسة الأمريكية، وجاء ذلك في إعلان رسمي من الناطقة باسم البيت الأبيض.
بل يمكن القول، بدون مجازفة بالمبالغة، إن الهجوم العسكري الإسرائيلي كان تتويجا للموقف السياسي الأمريكي نفسه، وذلك تأسيسا على ما يلي :
ـ ما صرح به المبعوث الأمريكي ويتكوف لمحطة «سي إن إن» يوم الأحد(قبل يومين من الهجوم) أنه «اقترح عودة خمسة رهائن أحياء، من بينهم الجندي الإسرائيلي الأمريكي عيدان ألكسندر، في مقابل إطلاق سراح عدد كبير من السجناء الفلسطينيين إلا أن رد حماس عليه كان غير مقبول بتاتا».
ـ ما صرحت به المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، في مقابلة على قناة «فوكس نيوز» الأمريكية بأنه «تمت استشارة إدارة ترامب والبيت الأبيض من قبل الإسرائيليين في هجماتهم في غزة».
وعليه، نسجل بأن السلطات الأمريكية ردت بما تراه مفهوما، على القمة وعلى تدبير الما بعد الحرب الأولى.
ونسجل أيضا أن الإدارة الأمريكية وضعت موقفها من الهدنة لمجريات التفاوض حول الأسرى في سياق أوسع، وهو الرد على ثلاثية( حماس إيران الحوثيون) وذلك من خلال الربط بينها .حيث ورد على لسان الناطقة باسم البيت الأبيض أن »الرئيس ترامب أوضح أن حماس والحوثيين وإيران وكل من يسعى لترويع ليس إسرائيل فحسب، بل الولايات المتحدة أيضا، سيدفع ثمنا باهظا – أبواب الجحيم ستفتح على مصراعيها«…
إدارة واشنطن أضعفت أيضا الدول الأخرى أو بالأحرى الدولتين الأخريين الضامنتين لاتفاق وقف إطلاق النار ( مصر وقطر)، بما أنها انحازت كليا إلى تل أبيب وسمحت بالهجوم الرهيب في أيام رمضان..
والعالم، خارج دول الضمانة وخارج القمة العربية ؟
لقد صمدت عواصم عربية بالرغم من محدودية قدرتها على اختراق السقف الزجاجي الذي توجد فيه وفرضته عليها اختياراتها الدولية كما فرضته قواعد موازين القوة.
وصمد الفلسطينيون، أحياء وأمواتا، من أجل ألا يحصل لهم ما هو أفدح من القتل وأنكى من الاستشهاد وأمرّ من المقبرة: وطن في السراب …وترحيل إلى اللامكان!
وتوالت المواقف الدولية المنددة، وما زالت الأمم المتحدة تحت الصدمة: كما لو أن المسيح عليه السلام أعلن كفره بعقيدة السلام، وليست دولة احتلال مارست منذ شهرين فقط حفلة دم ماجنة عمرها 15 شهرا، خلفت قرابة 50 ألف قتيل..!!
العودة إلى مسافة الصفر من الدم تعيد خلط الأوراق، وربما جعل الشرط الإسرائيلي هو المحدد دون سواه.
لقد توالت المواقف الدولية المنددة بالغارات الإسرائيلية المتجددة.
واعتبرت مصر أن الضربات «تنذر بعواقب وخيمة على المنطقة»، بينما رأت تركيا أن هذه الضربات هي «مرحلة جديدة في سياسة إبادة».
بدورها حذرت الرئاسة الروسية من «دوامة التصعيد» في غزة، بينما أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن «صدمته» حيال الضربات، وفي المقابل تسير «خطة الجحيم»، كما عرفتها الناطقة باسم البيت الأبيض وأعلنها بنيامين نتانياهو قبلها، كما تم التخطيط له في الواقع: وقد نفذت إسرائيل إلى الآن بندين وردا في هاته الخطة المفترضة، هما منع دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع وقطع الكهرباء عنه. في حين تتضمن المرحلة الثالثة استئناف الحرب، ومن يدري؟ استخدام القنابل الثقيلة التي وفرتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإسرائيل!
هل يطل حدسي من جديد: يا إلهي لماذا يساورني القلق أن شيئا تراجيديا يوشك أن يقع؟
إما لخلط أوراق المرحلة الثانية من اتفاق الهدنة في غزة …
وإما لتسويغ التهجير القسري كهدف تم تحديده، بواسطة الكارثة؟».

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 19/03/2025