إلى رندة صديقتي الفلسطينية .. كل شهيد يسقط من العائلة، يقرِّب رحيلهم بشاهدة!
عبد الحميد جماهري
بعيدا عن فلسطين، وسط مطر شتائي قلب يبكي، في الحنجرة، بلبل نكَّس صوته وطيور مهاجرة تنتظر فتح العينين على مجزرة… لكي لا ترى. عند رندة أبو شمالة، الصباحات في الدار البيضاء كلها تنهيدات طويلة، ومفحمة، والهواء تملأه روائح الدمار والضباب والرصاص والنيران: محرقة شوت أحشاءها، والقنابل تصل إلى شارع بير أنزران بالدار البيضاء، في صبيحة باردة بالعاصمة الاقتصادية تفكر أن الماء هناك صار نادرا، مثل حبات الماس، وفي غير غزة يحاكي الدموع. الألم هنا، كما في قصيدة هايكو، فرد من العائلة… تقول قصاصات الأخبار :”22 شهيدا على الأقل وأكثر من 100 مصاب جراء قصف إسرائيلي لمنزل عائلة أبو شمالة في خان يونس واستهدفت قوات الاحتلال، منازل أسعد أبوشمالة أبو العبد، وأبوخالد أبوشمالة، ونايف أبو شمالة”..رندة الصديقة الفلسطينية بيننا في جريدة الاتحاد تتلقى الأخبار كما إبر في العينين، لا هي تودعهم ولا هي تبكي، والقلب دوما سجين السكاكين التي تحيط به… قبل التعرف على رندة كانت فلسطين تقيم في وجه طالب صديق اسمه ماهر الخياط، ورفيقه في الاتحاد العام لطلبة فلسطين أبو محمد مسلم في جامعة وجدة. هناك كانت تلتقي بنسائمها نفحات الزعتر، وهناك نتمم القصة الفلسطينية في المغرب باعتقال بعد إضراب 1979، وجيل محمد كرينة، أو بأغنية مارسيل أو العاشقين في شريط مهرب من الشرق أو من مليلية، وعلى نيران المحرق، “نشحر ” لنا شرابا راهنا من الزعتر والزيتون، يكاد العالم أن يكون كوكبا تائها عن صرته الأرض فلسطين. لكن قبل رندة الصديقة الصحافية أولا، كانت خارطة فلسطين تمتد من جثث دير ياسين إلى قبور كفر قاسم، ومن أغنية مارسيل خليفة إلى حزن محمود درويش ومناحة سميح القاسم.. ولطالما كانت القضية جبهة مفتوحة مع “النظام”، وعندما يغضب منها نعانقها في الشارع العام أحيانا بلا سبب واضح وربما عن خطأ حتى، حدث ذلك بعد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر وحادثة عبد العزيز المراكشي وغضب الراحل الملك الوثني في وطنيته، كما يحلو له القول مع الحسن الثاني والتهديد الشهير.
لم نركن إلى غضبة ملكنا، وكان على حق، “على شان عيون فلسطين”!! حتى بعض رفاقنا لم يجرؤوا على مصافحتنا في مقهى الشرقاوي، بقلب وجدة، وقالوا: هل يتضامن الفلسطيني مع نفسه، لكي يهربوا….. من العناق!وكان ذلك عندما جالسنا الممثلين المعتمدين لاتحاد طلبة فلسطين لإصدار بيان تضامني مع الفلسطينيين، منتصف الثمانينيات !
بعد الصداقة، في رحاب الجريدة، مع رندة أبو شمالة، أصبح للبلاد المقدسة، عينان وبريق، وقصة شعر وبحة مختارة من بين كل ألحان الشذى.. وصرنا جزءا من حكاية أسرة فلسطينية كما صارت جزءا من قصص عائلات مغربية. وأصبحنا نعرف غير قليل من مزاج ابنة الأخت في غزة، والشقيق في رام الله، وحكايات الأسرة في نابلس ..صارت فلسطين قصة عائلة تصر على أن ترسم أحلامها على عشب البلاد ولو كان مدمى بفعل القصف والمجازر.
في الحرب اليوم على غزة، أغامر بالحديث معها، نتواصل كما لو كنا من قبيلة الدلافين: بصرخات مكتومة لكي نحرر عواطفنا، الأنفة والاعتزاز…، في أحواز البيضاء الآن الشجرة بالقرب من الثانوية أو في حرم البيت تجذب إليها نيران الطائرات، هكذا سنعرف من الأخبار عن تطاير العائلة بين الملائكة المحلقين إلى الخلود: عيد ميلاد آدم وسامي أسود شمالة ، ولدا في 21 أكتوبر ، عيد ميلادهما هو عيد استشهادهما، كل عام ستعود إليه أسراب الفاجعة بطيورها المتفحمة تحلق بأجنحة من الفقدان. المرأة الحامل دارين أبو شمالة التي ولدتْ مكة : كانت تنشر الغسيل على الشرفة، فطارت بأجنحة من فوسفور إلى دار الجيران، تمكنت من البقاء على قيد الحياة لمدة كافية لإخراج ابنتها مكة من الرحم الذي كان يحتضر.
الأوكسجين كان قليلا في رأس الصبية، ستولد من دموع والدها.دارين أبوشمالة ولدت من بعد اغتيالها في كل القصص التي تقاوم النسيان.
هذا الاسم العائلي يشبه الطريق.. طريقا لا يمشي فيها أحد بدون صليب وكفن .. ومغيب فاحم.
لهذا لا تسعفني اللغة، وأنا أشكر أباها الصبور، الذي سعدت دوما بلقائه: كيف ننظر إلى عالم من قطرة ندى، في وقت يغطيه الدم الفلسطيني، أيها الأمل كيف نفعل؟
كيف ولا سلاح لنا سوى الإدمان على العاطفة، والتعايش مع الفاجعة، وربما التفكير في فقدان الذاكرة بتاتا..وقد ألفنا أن يكون اسم فلسطين وسيلة دقيقة في ربط الاتصال، مع .. الذات ومع الجماعة، مع الهوية الكفاحية للإنسان فوق الأرض ومع قدر الحرية!؟
كيف نعانق الهشاشة لكي نصير بشرا، تحت وابل من القنابل والبيانات المتناقضة؟
يصعب ألا أفكر في المجازر التي انتمت إليها كل عائلة فلسطينية، لكن شيئا ما فريدا يغزو العضلات القلبية لما نعرف أحدا من أفراد عائلة تعرضت للإبادة المعلنة والمفضوحة والمسجلة؟عائلة أبوشمالة التي صارت عنوانا للعوائل الفلسطينية التي يتفرج العالم على إبادتها.
نضمد الجراح بالإعجاب، الإعجاب الجدير بالأُسر التي تواجه التراجيديا بإيمان فائق بأنها مجرد تجربة عابرة في الحزن، وأن الربيع القادم سيأتي بالأجيال كلها..وقتها لا بد أن نصيح مندهشين مثل الأطفال: كم هي مليئة بالحياة، ظلال الشهداء!
لن أحدثك عن ضمير العالم ولا عن الضمير الأخوي: يبدو أن الضمائر الميتة تتآخى عندما تهب رياح الخريف القاتلة…سأظل صامتا، خجلا من لهيب حزنك وحزن الوالد الذي يحمل فلسطين الآن في قلبه المتعب، مثل حبات الأسبرين، وفي قلب الشقيقة الصديقة، الذي يرفرف مثل فراشة خانتها أجنحتها بفعل اليأس من العالم، هذا الذي نفترض أنه حي!..
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 04/11/2023