اكذبي يا أسماء اكذبي! إن كذبك الأبيض طريقنا لنكون بين النجوم !

عبد الحميد جماهري
كان عليها أن تجتهد بصدق لكي تنتج كذبا، وأن يكون أبيض حتى يستطيع أن ينقل إلى الشاشة ذاكرة سوداء.
هي لم تحقق مجدا شخصيا لنفسها، فقط، بل نجحت، علاوة عليه، في بناء الجدارة الجماعية.
واستعملت كل ألوان التعبير : الوثيقة والشهادة والبحث والأركولوجيا اليومية والمقالة والتداعيات والسيرة الذاتية، والصور لكي يكون الكذب أبيض، أليس الأبيض هو تجميع كل الألوان في كيمياء الإبداع الجريء؟ كان التتويج في كان مقدمة للتتويج في مراكش…
وهذا المهرجان لم يصبح مغربيا كما صار اليوم، وكما يجب، إلا بعد أن انتزعت أسماء من سمائه نجمة ( يا أهل السينما هل يكون اسم أسماء مفرد سماء؟).. إنني من فرط فرحي أدافع عن هذه المبالغة في المديح، لإقناع الناس بل من أجل أن يهبوا جماعات وفرادى حيثما تكون ملصقات الفيلم تحمل اسمها… كذب أبيض…
هي دليل آخر، على أن قطف نجمة ليس مهارة فنية فقط بل هو تحول في جغرافيا الممنوع والمتاح في مغرب الهنا والآن، تكثيف المغرب الذي نريد تغييره في صورة فردية لتجربة شخصية، فيه من البلاغة ما يجعل حياة الفرد في صورة تساوي إحياء الناس جميعا، وفيه أيضا تسجيل فارق بين بداية تطهير الذاكرة من جراحها في التسعينيات من القرن الماضي وعشرينيات الألفية الثالثة. أذكر أنني لما أنهيت سيرة كتاب «تازمامارت»، الذي خلق زوبعة وجدانية وثقافية كبيرة هزت الصورة التي كوَّنها المغاربة عن أنفسهم، عنت لي فكرة إصداره في كتاب، وكانت الطبعة الأولى وقتها قد تزامنت مع الإعلان عن جوائز المغرب ومنها جائزة الترجمة.
حدثت أحد أعضاء اللجنة المعلن عنها، وكان صديقا وأديبا وسينمائيا أيضا ومناضلا لا غبار يعلو حماسته الكفاحية، عن نيتي بالتقدم ضمن صنف الترجمة، فقال لي : إذا لم نسلمك الجائزة سنكون ظالمين وإذا سلمْنكاها سندخل الحبس؟ !
وكان في الواقع يمازحني بـ 50 % فقط?
يا لهُ من انسجام ثلاثي نادر عندما يكون الفيلم مجسَّما من ذاكرة مبنية على بياض فني مستوحى من سواد الذاكرة، قد يعبِّر عنه النقاد المؤهلون والمالكون لأدوات التحليل العميق المتعارف عليه دوليا بالقول إن أسماء تستكشف ماضيا مجهولا لعائلتها، وبتوالي الكتابة الفيلمية يعاد بناء تاريخ مخبأ، عندما تزور أسماء منزل والديها في الدار البيضاء لمساعدتهما على الانتقال إلى منزل آخر، ومع بدئها فرز الأغراض التي كانت تملكها خلال طفولتها، عثرت على صورة جعلتها تبدأ التساؤل عن ضرورة بناء الذات الاجتماعية مع إخفاء كِسَفا من الحقيقة.. ولعل الذي يظل ملكا للشعراء هو أن العينين الكبيرتين، المندهشتين والجاحظتين أمام مشاهد اختفت اللهم إلا من الصور، هي النظرة التي تدل كل المغاربة على مخازن سنواتهم الصعبة، عينان بِسِعَة الألم، تحملقان بدهشة إلى ما كنا نختزنه من جروح.
لم تقفز المدير إلى النجمة على زانة من إبداع متشابه ولا من تلة فوق الفراغ: بل هي نالت ما نالته بعد الذي راكمته، وتراكمه ولا شك من مهارات لا مكان للحظ فيها، سيرة طويلة صادقة في التحصيل العلمي أولا، هنا في المعهد العالي للإعلام والاتصال، وهناك في المدرسة الوطنية لمهن الصورة والصوت في باريس، ثم في كتابة السيناريو وإخراج الأفلام الوثائقية، التي تتطلب مهارة في ترويض الحقيقة بناء على تأويل فني قد يُخاتلها.
على سلم من الجوائز، كما الجائزة الكبرى في مهرجان أفلام المرأة الدولي في تورنتو والجائزة الكبرى لمهرجان العيون للفيلم الوثائقي منذ خمس سنوات، صعدت بثقة وإشعاع إلى أعلى سينما مراكش، ونحن ننظر إليها وكلنا يقين أن تلك مجرد سماء أولى في سلم صعودها..هنيئا لنا، ولندع الله أن يزداد كذبها السينمائي الصادق.. فمن حسن حظنا أنها في أوجها وستدخل من جديد في التجربة: أليس الحب كذبتنا الصادقة كما قال محمود درويش؟
ختاما إن ما يزيد من بياض الاعتزاز هو أن العين الأنثوية التي دخلت إلى ميدان ما وراء الكاميرا متأخرة قليلا عن العين الذكورية في السينما المغربية هي التي حققت هذا الإنجاز العالمي، وهو دليل على قدرة المغربيات العالية في استدراك الزمن الدولي الضائع وطوبى لنا !
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 18/12/2023