الأصل في الأشياء رفض الاحتلال ومقاومته : طوفان الأقصى وسفينة نوح المعطلة

عبد الحميد جماهري
الأصل في الأشياء رفض الاحتلال، وما يترتب عن الاحتلال الذي طال أزيد من 75 سنة، قرنا إلا ربع…
والأصل في الأشياء أن يتحدد الموقف على أساس الحق المشروع في الصراع من أجل تحرير الأرض…
لهذا يكون من باب السماء فوقنا والأرض تحتنا أن احتلال الأرض موجب قطعا للمقاومة والصراع…
ولا يمكن لعاقل أو منصف ألا يربط بين تصاعد هجمات الاحتلال والدفع نحو التأزيم المبني على استعلاء إسرائيلي مقيت، وبين الرد الفلسطيني مجسدا في تصعيد حماس العسكري…
من هنا نفهم موقف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، من خلال تصريحات كاتبه الأول (انظر نص التصريح في عدد الجريدة) كداعم دائم ومثبت للحق الفلسطيني، وفي اختياره زاوية المسؤولية الثابتة للسلوك الإسرائيلي المستفز والمهين والقاتل، في خلق شروط التصعيد وفي اشتعال الجبهة الفلسطينية الإسرائيلية …
ومن حق الشعب الفلسطيني، في غزة والقطاع، أن يصمد ويقاوم ويقاتل ويقتل في سبيل أرضه، وفي ذلك ليس له أن يسحب أحد منه، عاصمة أو نظاما، مجد الموت من أجل أرضه كما ليس له أن يفوض لآخرين ذلك، كانوا عواصم أو تيارات …
هذا الثابت التاريخي والأخلاقي والشرعي، يستوجب منا أن نسمي الأشياء بمسمياتها، الاحتلال احتلال والمقاومة مقاومة، وكل يعرف حدود مسؤوليته…
في واقع الأمر عقَّد وصول اليمين المتطرف من أوضاع الجميع في الشرق الأوسط، وزاد من توفير شروط التصعيد، عندما راح يدفع نحم استحالة التعايش، وصولا إلى إسقاط صفة الشعب عن الفلسطينيين كما فعل واحد من وزراء التحالف الحاكم..وأن يقترف الاحتلال تكسير قاعدة الوضع القائم، ويدفع الفلسطينيين إلى اليأس فقد أسقط أي شرط يقف في وجه استئناف الصراع…
ـ الواقع لا يمكن للعالم الحي أن يعطي لإسرائيل حق احتكار العنف، وهو غير مشروع في حالتها ويحرم منه الفلسطينيين، وهو عنف مشروع في حالتهم للدفاع عن النفس والحدود الدنيا من العيش…
ـ لا يمكن لإسرائيل وحكومتها اليمينية المتطرفة أن تعيد الصراع إلى السماء فوق أورشليم القديمة، لاعتبارات عقدية، ولا يكون الرد من الجانب الفلسطيني بالصعود مجددا فوق سماء القدس ومسجدها، والبحث عن طريق الإسراء في تفسير ما يجب القيام به، وركوب صليب الناصري الذي لا يموت للبحث عن حق في حاضر مسور بالأسلاك والجدران العازلة…
وهو مدخل صعب للتحليل والبحث عن الحل،بين المقدس والمقدس لا يوجد سوى النفي أو الحل الشامل، وفتح الطريق نحو تدخل الدول الدينية في قراءة المعادلة، من طهران وبغداد واليمن …
ما كان للعالم الإسلامي أن يقبل، بأي ذريعة كانت ، التنكيل اليومي بالمصلين وبالمقدسات الدينية باسم مقدسات دينية أخرى أكثر قدما بدون رد فعل يستنكر ثم يقاوم ثم يهجم باسم المقدسات وباسم المقدسيين…
ـ في العملية الحالية «طوفان الأقصى»، اتضح أن قانون واقع الأمر القائم، الذي فرضته إسرائيل منذ جمدت عملية السلام وتسليم الأرض مقابل السلام، قد أنهك المروجين الدائمين لعملية مستحيلة هي استنزاف الحوار، وسهلت الأمر على تيارات التطرف لفرض شروط اللعبة داخل إسرائيل، نفسها، وربما استمرأت النوم في عسل التفكك العربي وانهيار النظام العربي دولةً وهيئات مدنيةً…
هذا الأمر القائم هو الذي وجدت حماس لنفسها الحق في تكسيره وعدم القبول بالمعادلة في حدودها الدنيا…
ولعل حجم العملية واتساع رقعتها، ينبئ بشيء جديد، وبما هو أكبر من تكسير الستاتيكو.statu quo الذي يدوم منذ سنوات عديدة. أنه يكشف العديد من المعطيات:
أولها، اتساع الرقعة في خرق الثوب الاستخباراتي ـ الديني للدولة الإسرائيلية، حيث تبينت »محدودية دولة المخابرات والعقيدة التلمودية« في تدبير وجود إسرائيل في الشرق الأوسط والعالم ، بالرغم من الحمية الغربية المهيمنة في دعم أي حكومة إسرائيلية، هناك ثغرة «ديفرسوار» جديدة في جهاز الاستخبارات ـشاباك والموساد- بالإضافة إلى الكشف عن حدود البناء الديني الجديد لدولة لا يمكنها أن تعيش في المحيط القريب منها بنفس التسويغات العقائدية..
ثانيها، قدرة المقاومة على التخطيط الجريء، وتنسيق عملياتها بشكل مفاجئ، تختار التوقيت وميادين المعركة اختيارا ذاتيا لم يكن مفروضا عليها، وتبادر إلى الرد على ما تراكم سنين عددا…
الواضح أن حماس ، ومعها المقاومة التي تتكلم باسمها، حققت كل الأهداف: الدخول إلى حزام غزة من شرق المستوطنات، أسر العشرات من الجنود والمستوطنين الإسرائيليين في عملية غير مسبوقة، دخول ثكنات عسكرية ومخافر شرطة وضعت لحماية المستوطنات، الكشف عن الضعف في النسيج الأمني والعسكري على الحدود بالرغم من الحائط العازل والأسلاك الشائكة…
في المقابل لا يمكن أن يتجاوز سقف أهدافها ما تحقق الآن، لا يمكن الحديث عن بداية نهاية الاحتلال ودخول المنطقة إلى ما بعد الاحتلال، بل إن المقاومة أصبحت لديها عشرات الأسرى، والذين ستضعهم على طاولة المفاوضات، في الوقت المناسب، وليس هناك ما يمكن أن تستشف منه أن هدفها يفوق هدف الأسرى من أجل الأسرى وإثبات أن المستوطنين ليسوا قوة لا تقهر….
ولعل حماس لم تغفل في تخطيطها المعطي الدولي الخاص برفض المستوطنات للدعوة إلى وقف عمليات الضم ، حتى من طرف الجانب الأمريكي…
لقد تعودنا في ثقافتنا العاطفية العفوية أن نجعل أي تفكير موضوعي وبارد مقدمة للقول بالهزيمة كما لو أن العقل حليف للاحتلال، ونرفض بشكل شبه عفوي، أي تشكيك عقلي في فرحة النصر الفوري….
لكن الموقف يستوجب غير قليل من حياد الروح، وتسليم العقل بعضا من حقائق التحليل…
العملية تفرض وضعا يفوق قدرات السلطة الفلسطينية في القطاع، باعتبارها المحاور الدولي والرسمي في قضية السلام. ولعل الواضح الآن هو أن الرد الحماسي هو الذي يقف في وجه التبشيريين اليهود بهذا المعنى …
ـ وعندما عطلت إسرائيل آلية السلام وعملت على تجفيف ينابيعه، كانت تدرك بأنها تفتح الباب أمام خيارات أخرى، ومنها التصعيد والقتال، لأن معسكر السلام صار ضعيفا وصوته غير مسموع، ويزيد من ضعف نبرته دوي المدافع وأصوات القذائف …
ـ هذه المسؤولية تفرض على الطرف الفلسطيني وضعا مركَّبا( يجمع غصن الزيتون والبندقية)، على قاعدة الوحدة…
فالسلطة التي وصلت إلى اليأس من السلام، ظلت تستعطف الأمل من أجل أن يفتح طريقا وسط ألغام الاستيطان وصعود الفاشية الدينية، وبين ضغوط القواعد الشعبية من أجل فك الارتباط بأفق ضعيف وضبابي رسم منذ 1993 في أوسلو ولم يثبت جدارته في تغيير مناخ المنطقة، في الوقت ذاته وجدت قوى التصعيد كل مبررات العقل والعاطفة لكي تغير من قواعد الاشتباك في المنطقة لفائدة تكسير الجمود والخروج من وضعية انتظار مستحيلة…
الفاعل الخارجي، إن كان هناك، يكمن في التدخلات في المنطقة من أجل الضبط الإقليمي للصراع، وقد أصبح من ردود الفعل أن السعودية وتركيا ومصر ودول الخليج في أغلبيتها دعت إلى ضبط النفس وإلى الابتعاد عن التصعيد، مقابل مباركة من إيران وسوريا وحزب الله، مباركة عملية ولا شك وهو ما يفرض أيضا استحضار الأدوار الإقليمية لطهران في أي صراع :أي خلط الأوراق وإعادة المعادلة إلى أصلها الأول، معادلة حرب واحتلال وتنشيط الصراع على قاعدته، وهو ما يفهم منه سحب أي دور لدول التفاوض أو التقارب أو التطبيع مع إسرائيل وتعطيل دخول السعودية في ديناميتها منذ تصريحات ولي العهد ونتانياهو في نهاية الشهر الذي ودعناه في الأمم المتحدة، وعلى هامشها، وإنضاج شروط التحاق المملكة بالمعسكر وخدمة الحق الفلسطيني من زاوية السلام واستئناف المسلسل السياسي على قاعدة حل الدولتين، وسعي إيران ، موضوعيا إلى استضافة نفسها في أي تطور مرتقب، بل دعوة نفسها إلى حوار، يبدو بعيدا عن حماس وحزب الله.
إن اتساع رقعة الصراع، بدخول حزب الله وبعض مؤيديه في سوريا واليمن والعراق في اللعبة الدموية، يعني أن المتحكم هي إيران، وهو ما قد بدأ في التداول عبر الكثير من التحليلات، وفي حالة انبنى الرد على هذه القناعة فلا شك أن الخارطة النارية ستتم أكثر وأكثر…
اللاعب الإقليمي لا ينظر دوما بالعين العاطفية إلى تطور خريطة الصراع في المنطقة، وإلى التقلبات الجيوستراتيجية، فهو يقيس التحركات من زاوية حضوره أو عدمه في مخرجات الصراع، وهو حال السعودية كما هو حال تركيا ومصر …
ولربما لم نعتد، منذ أجيال، رفقة الفرح الطويلة وصداقته، من فرط ما صبت علينا الحروب من ماء بارد بعد كل تهليل أو تكبير.
ولطالما اكتشفنا بعد فوات الأوان أن تعميم الخلاصات الطارئة، وهي ما زالت تبعث دخانها، يعود علينا بالكثير من الكآبة، حين يكون الرد وموقف العالم الآخر هو الغالب…سننتظر الرد الإسرائيلي، وما سيترتب عن تقلبات المنطقة بما يشبه انتظار الحريق الشامل..! حيث ستنضاف المنطقة العربية اليوم إلى جبهات أخرى في العالم العربي والإفريقي والأوروبي… واتساع رقعة السلاح في الكرة الأرضية…في وقت يبدو السلام مثل سفينة سيدنا نوح عليه السلام،سفينة معطلة ما زالت معامل صناعة التفاهمات لم تجد لها كاطالوغا للإنجاز …
يمكن الإجماع على أن حماس حققت الكثير من أهدافها المعلنة، وعليها، ونحن معها، أن تنتظر الرد الإسرائيلي ثم ما سيترتب عن مبادرتها وعن التصعيد من طرفها، لكي يستقيم التحليل فعلا وأن ندرك ما الجديد في الحرب فعلا وما القديم فيها، حتى لا نكتشف كما اعتدنا، بأن مواقفنا، وهي غالبا عاطفية، لا تدرك في الحين حسابات العديد من الأطراف التي تستغل حاجاتنا المشروعة في السلام والحرية، وتبنى عليها مواقع في الصراع الجيوستراتيجي ، وتترك لنا الكثير من شعور الخيبة والأمل بعد أن نكون قد دفنا موتانا.
هل حرب أكتوبر الثانية على الأبواب؟..
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 09/10/2023