الإغراء الفرنسي ودروس السياسة!

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

لعل الإغراء، بما هو فن فرنسي بامتياز، لم يعد يلامس السياسة في نظر العديد من المغاربة.ولعل النتيجة كانت هي خفوت النموذجية الفرنسية في المخيال السياسي الجماعي لهم.
بل صارت الدعوات إلى مغادرة دائرة التأثير الفرنسي متواترة.وأصبح جزء من السلوك الفرنسي، في الدولة والنخب الإعلامية، ممجوجا ومصدر انزعاج للنخب بما فيها تلك التي تربت على هالة النموذج الفرنسي… لكن الواقع السياسي الفرنسي ما زال مع ذلك لم يستنفد الكثير من جاذبيته ومن تفرده في استمالة المتابعين للحياة المعاصرة في السياسة والفن والثقافة..
فإن جزء كبيرا منا تابع أطوار الانتخابات الأخيرة ولا سيما عمق النقاش الذي دار فيها بين الفصائل السياسية وتوبع من طرف المحللين الرصينين الذين ينفذون إلى عمق الإشكاليات.
ومما أثار العبد الفقير لمعرفة ربه، تلك التحليلات التي ذهبت إلى القول إن الانتخابات مكنت جزءا من اليسار من إعادة اكتشاف بل خلق الشعب السياسي، عبر خطاب جان لوك ميلانشون، ومن وافقه في التحليل..
كما نظيرتها التي رأت أن الحياة اليومية للفرنسيين كانت حاضرة في ذهن الفرنسيين البسطاء المواطنين أكثر من النقاشات إياها، بما يجعل هوة سحيقة بين مخاوف اليومي المعيشي وعلو النقاشات التي طالت الطبقة السياسية..
وهو ما عبر عنه ايمانويل ريفير بالقول: «إن مسألة القدرة الشرائية لا سيما سعر البنزين كان لها تأثير قوي على نتيجة التصويت» موضحا «كانت مشاكل الحياة اليومية حاضرة في أذهان الفرنسيين أكثر مما هي في النقاش».
مخاوف جعلها حزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبن موضع حملته الرئيسية ويمكن أن تفسر تقدمه التاريخي الذي أتاح له أن يصبح، بلا شك، القوة الثالثة في الجمعية الوطنية، وحسب المحللين يمكن الاستنتاج بأن المركزية) صيغة ملطفة عن التغول) ساهمات في تفكك الجبهة الجمهورية واستفاد منها التطرف العصري!!! عكس ما قد توحي به..
الصوت الذي نبه إلى ذلك كان هو صوت مارسيال فوكو، مدير Cevipof في حديث لشبكة LCP، «حصل تفكك في الجبهة الجمهورية بالكامل، أو حتى ضاعت في طي النسيان في الجمهورية الخامسة».
وهذه إحدى النقاط التي خلفت فيها استراتيجية إيمانويل ماكرون عواقب لم يسيطر عليها بالكامل: هذا الخطاب القائل إنه «بدوني لا يوجد سوى التطرف»، كان مدمرا بعض الشيء…
هل يمكن أن نسحب ما نقرأه علي موضوع يتعلق بإضعاف الديمو قراطية بسبب مركزية التغول الحالية؟
قد يكون من الواضح أن الإغراء تضاءل وتراجع، ولسنا ندري إن كان ذلك بفعل عوامل النفور من تجربة فرنسية أو هو بحد ذاته عنوان نوع من التراجع في الاهتمام السياسي الذي طبع الفترات السابقة؟
وعلى كل، ففقر الدم السياسي الذي نسبح فيه منذ مدة في بلادنا والتحول الذي رافقه يجعل من متابعة النقاشات السياسية وتحاليلها والتحولات في المشهد الفرنسي تعويضا نخبويا تباعديا موفقا!
وفي وصف بعض ملامحه لا يمكن ألا يغرينا بالمقارنة بل في إيجاد بعض الأجوبة عن ما يقع في مشهدنا منذ الانتخابات الأخيرة.
الحديث عن سلطة عمودية، بعيدة عن السياسة.. يتحكم فيها العقار مثلا، لا يمكن أن نغفل قراءة ماكتبه حولها المفكر والسياسي الكبير الباحث في الكوليج دوفرانس،الخبير في القضايا الليبرالية والدولة الوطنية «بيير مانانت»، لعله يقربنا من تفهم بعض ملامحنا!..
لقد تابعنا كيف يتطور التطرف والعزوف معا..
وكيف لا يجب أن نجعل من التطرف هدفا للمعركة مع إضعاف الجميع كما فعل ماكرون عندما تغول على الساحة السياسية وأعلن وفاة الأحزاب السياسية لفائدة تجمعات ومركبات مصلحية انتخابية..
الذين قرأوا النتائج ، اصبحوا يفصلون الدولة عن الحكومة، بين ماكرون الرئيس الذي نجح بأصوات اليسار وماكرون الحزبي والرئيس التنفيذي الذي فشل بأصواته. وفي ذلك يقول إيمانويل ريفيير مدير الدراسات السياسية في معهد كانتار «لم تكن هناك عواقب لفوز ماكرون في الانتخابات الرئاسية على الانتخابات التشريعية»، مضيفا «حدث كل شيء كما لو كنا في استمرارية لمدة عشر سنوات، وانتهى الأمر بالانتخابات التشريعية ان تكون انتخابات وسيطة تكون صعبة عادة للحكومة وليس كانتخابات تشريعية تلي الانتخابات الرئاسية».
لقد كانت الماكرونية حجة العديدين منا في قتل الأحزاب التقليدية أو دفعها إلى تغيير جلدها بما يساير الخفة الديموقراطية الطارئة، لكن أدركها الوضع الذي دفع بها إلى الواجهة وصار ممثلها أيضا مطالبا بأن يرحل..
وأخيرا، لا يمكن أن نبقى محايدين أمام بعض الشاعرية في التحليل السياسي، عندما نقرأ أن الرئيس الذي انتخب رئيسا تعرض للعقاب من طرف شعب «يوجد فوق أرض مجهولة».. يا سلام على فرنسا عندما تحسن الحديث عن نفسها.. وربما عنا وعن نخبتنا التي تشبهها!

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 22/06/2022