الثقة كنتاج لقوتي المصالحة والنقد الذاتي.. 3/3

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

النقد الذاتي ليس جزءا من العلاج الذي يوصي به علم النفس الاجتماعي، إنه ضرورة أخلاقية وشرط مؤسساتي لكي يكون للمسؤولية والمحاسبة معنى، بعيدا عن القضاء والجزاء، بقدر ما هو محاسبة ذاتية، إنه تفرع مهم، اليوم، عن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، إن لم يكن جل من أسس لها…، كل الأدبيات التقدمية، الثورية منها أو الإصلاحية، جعلت منه قيمة تأسيسية وأسلوبا في رصد الالتزام الحقيقي للنضال السياسي…
وكما في غير ذلك، فإنه مؤسس كبير للثقة..
الثقة لا بد منها، ليس الثقة في الشريك؛ فقط، بل في الذات وقدرتها على تجاوز مثبطات العمل المشترك….
الذين يتصالحون يثقون في أنفسهم كما يثقون في الطرف المقابل لهم،..ليست درسا في الموعظة الحسنة للثوار الطيبين ولا رقية ديموقراطية يستوجبها التبتل الصوفي للتنظيم، ولا تنويما لحاسة الاختلاف، إنها بالأحرى شرط مواطنة سياسية وحزبية ومؤسساتية، مطلوبة في كل طوابق الدولة وعتباتها….
لنبدأ بالمعنى الذي تكتسيه في حقل سياسي:
العجز في الثقة هو الذي فجر تماسك ما بعد الاستقلال، نفس العجز هو الذي مشى بنا ومشينا به في البسعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وهو نفسه الذي أملى علينا توجساتنا إزاء بعضنا وإزاء المؤسسات، وهو الذي أفرز العزوف، وهو الذي أفرز هروب الناس من أفضل شي ابتدعته البشرية، الديموقراطية، الثقة هي التي تضع الشعوب في خلاف مع الديموقراطية..
إن الثقة هي الثمن الذي يجب دفعه لربح التحديات..
لقد لخصت المشاكل التي تراكمت وجود خلاف عميق، كان التوجس وعدم الثقة فيها شرط وجود، والذي ساهمنا فيه بخلق تنظيمات كثيرة هي عنوان عن العجز في الثقة في المشترك..
الثقة في مهمتنا
الثقة في الذات
الثقة في التراتبية التنظيمية
الثقة في التاريخ المشترك
والثقة في الثقة نفسها بخلق شروطها وعدم اعتبارها زائدة تنظيمية حلقية..
إن نتيجة تسييد منطق المصالحة معززا بالنقد المتبادل والثقة، هو التفكير في شروط موضوعية، ومتفق عليها لتدبير الاختلاف، وتمكين المؤسسة من النهوض بعيدا عن الاستراتيجيات الفردية والنزعات الجاحدة.
لا بد من التفكير في تجميع القوى، عبر بوابات تنظيم الاختلاف كجوهر للالتزام السياسي المنظم اليوم في العالم..
بما يعني أنه لا بد من الثقة، لكنها الثقة التي لا تعني شيكا على بياض، ثقة عقلانية مفكر بها ولها احترازاتها المادية التي تِؤمنها وتحصنها..
لقد انتقلنا من ثقة صوفية، كانت تدفع الواحد منا إلى التضحية بنفسه لإنقاذ إخوته وتحمل كل التعذيب للحفاظ على سرية الأسماء، إلى جو غير مقبول تكون فيه الحسابات الصغيرة قادرة على أن تبرر «الاغتيال» المعنوي للأخوة.. وتقديس الطموح الشخصي على المشروع الجماعي. وعوض الارتباط الطوعي بالفكرة والتنظيم، أصبحت المسارات السالبة للشخصية والامتثال إلى الحلقية أحد أبرز ما يقتل الثقة..
لقد حولنا، في جزء من نقاشنا، أزمة الثقة إلى أزمة في التواصل السياسي، وهو اختزال يمنعنا من رؤية حقيقة ما حدث من تحولات في السلب..
قد يكون على التواصل السياسي مهمة تغذية وتقوية الثقة، كما قد يكون من مهام الثقة إعادة الاعتبار للتواصل السياسي، لكننا أمام معضلة أعمق، فيها التاريخ والعاطفة والتوتر وموازين القوى والقوانين المهيكلة للصراع ومستجدات الثورات المتتالية في الإدارة والرقمنة وأساليب العيش..
الثقة لا تقل عن الشرعية في السياسة، بالنسبة للأحزاب كما بالنسبة للحكومات، إذ بدونها يصعب الحكم..
وقد استمعنا إلى ملك البلاد وهو يحذر من نتيجة انعدام الثقة لديه ولدى المواطنين في الوضع السياسي..
ودعمت استطلاعات الرأي بارومتر الثقة في التنظيمات السياسية والتي بلغت عتبة مخجلة من 1 % في البلاد لدى الشباب دون الخامسة والعشرين، وهو مؤشر رهيب للغاية..
ومن هنا سيكون من المفيد لبلادنا، أن يكون يسارنا الاتحادي عربون ثقة ومنبعا لها، ومجسدا لها في السلوك وفي الانحياز التام لميثاق المسؤولية المعنوية عن حسن الممارسة..
إن ما نقدمه هو ثلاثية سبق لزعيم اشتراكي كبير هو جان جوريس أن عبر عنها بـ «لا تأسي على الماضي، ولا ندم إزاء الحاضر وثقة متينة في المستقبل»..

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 23/09/2019