الثورة الألمانية المسلحة..

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
ظلت ألمانيا تُلجم شهوتها الحربية، ورغبتها في أن تساير قوتها الحربية عضلاتها الاقتصادية بجدار نفسي قوامه الشعور بالذنب، فغذت طويلا أزمة الضمير إزاء العالم الذي حاربته في العهد النازي، بهروبها من الأسلحة، إلى أن أيقظت الحرب الروسية شبحا آخر في أعماقها، يعود إلى طفرة ما بعد الحرب العالمية الثانية وميلاد التهديد السوفياتي وقتها.
فالدبابات الروسية في عهد فلاديمير بوتين، أحيت في لاشعور ألمانيا ذكريات عميقة ومدسوسة تعود لخمسينيات القرن الماضي.
تقول حوليات التاريخ الحديث إن اندلاع الحرب الكورية في 1950 دفع الولايات المتحدة إلى أن تطلب من فرنسا القبول بإعادة تسليح ألمانيا الفيدرالية وقتها، وذلك على خلفية التخوف من حرب هجومية يقودها الاتحاد السوفياتي، سلف بوتين على أوروبا الغربية.. كان الجيش الفرنسي غارقا في وحل الهند الصينية (لاندوشين)، والبريطانيون في وحل ماليزيا، وقد طلب المستشار الألماني وقتها «كونراد اديناور»، الحق في إنشاء جيش قوي لحماية بلاده لا سيما أن ألمانيا كانت لاجيش لها ولا وزارة للدفاع ولا قيادة أركان، وكل أعضاء »الناتو« ساندوا المقترح الأمريكي، باستثناء فرنسا وبلجيكا…
كان واضحا أن التسليح الألماني منذ سبعين عاما كان لفائدة واشنطن، كما هو التسليح اليوم كذلك، حسب ما كتب »فرانسوا دورفيكال«، في مقال تحليلي على صفحات »الفيغارو«…
في خطاب تاريخي ألقاه الشهر الماضي، تعهد المستشار الألماني «أولاف شولتز» باستثمار مبلغ إضافي قدره مئة مليار يورو (112 مليار دولار) في تحديث القوات المسلحة الألمانية، وهو ما يعتبر قطيعةً مع النهج الذي اعتمدته ألمانيا، أكبر قوة اقتصادية في أوروبا، التي اختارت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية كبح قدراتها العسكرية.
كانت دول الحلف الأطلسي تطالب برلين بتخصيص 2 % من ناتجها الداخلي الخام للإنفاق العسكري، في حين كانت برلين تقتصر على %1.5 أي بناقص 25 % من المقترح، مع هامش ديون يبلغ 45 مليار يورو.
ومن علامات الساعة الألمانية، أن هذه السحب تم تجاوزها بشكل كبير.فقد قررت ألمانيا زيادة إنفاقها على الدفاع إلى مستوى قياسي في 2022، وفق مشروع الميزانية، الذي كشف النقاب عنه يوم الاثنين الماضي، فيما تسعى برلين لتجاوز هدف الإنفاق الذي حدده حلف شمال الأطلسي في السنوات المقبلة.
من اللافت للأنظار أن أولى مقتنيات الجيش الألماني، كانت من الطائرات المستجدة، والتي تثير شهية كل دول العالم الـ «إف» 35 والتي تعد رقما حاسما في الكثير من المعادلات الدولية.
وقد رأينا كيف تعرضت العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها العرب، الإمارات والسعودية، بعد تعثر بيعها للطائرات إياها، وكيف أن إسرائيل بالرغم من العلاقات مع بعض الدول ترفع حق النقض في وجه تسليم واشنطن لهذه الطائرات في منطقة ملتهبة من العالم.
بالنسبة لألمانيا، الحصول على هذه الطائرات لتعويض طائرات «التورنيدو»، جاء لتحيين الترسانة النووية. فالطائرات التي اختارتها كآخر صيحة في الدفاع الجوي، سيكون لها دوران: أولا الدخول إلى غمار حرب جوية محتملة، بما أن الحروب تتم على هذا المستوى في العالم اليوم، ثم تمكين ألمانيا من طائرات جديدة وحديثة قادرة على حمل الرؤوس النووية، الأمريكية في الأصل والمتواجدة على التراب الألماني.
وهي مقدمة ولا شك لكي تقترح نفسها قوة نووية في القريب العاجل ..وكل ما يستتبع ذلك من توازنات جديدة في العالم وفي أوروبا..
من الخاسر؟ يتساءل الأوروبيون، إلى أن تحدد أوروبا ما اتفقت عليه كشعار مرحلي «للسيادة الأوروبية والاستقلالية الاستراتيجية».. فإن الجواب سيكون: أوروبا، حتى وإن كان من بين عناصر التحول الذي بدأ، استيقاظ «الأميرة الأوروبية النائمة» بعد أن سمعت طبول الحرب قرب سريرها!
ثم قد تكون فرنسا تالية في الخسارة.، فهي لا تعلن معارضة صريحة كما وقع أيام الخمسينيات، لكنها تعرف بأن القوة الاقتصادية لألمانيا المسنودة بالقوة العسكرية سيجعل دورها ثانيا..
أوروبا قد يتكرس ضعفها أمام الناتو ثم أمام الولايات المتحدة، والدليل الذي يقدمه المتتبعون هو مستقبل الطائرات الأوروبية المشتركة..وقد عبرت وكالة فرانس بريس عن هذه التحولات، بنشر ما يروج في الأوساط الأوروبية.
الثورة الكوبيرنيكية الجديدة التي تقودها ألمانيا لا تمر بدون قراءات، بعضها يطرح مصير التحديث إزاء القارة العجوز، من جهة وأمام أدوار الناتو من جهة ثانية.
العالم دخل عهدا جديدا، بالنسبة لألمانيا، وهي أدارت ظهرها لخمسين عاما من السياسة السلمية مع إعلان التسلح وتسليم الأسلحة القاتلة لدول في حرب..
كتب أحد المعلقين أن التاريخ دق على باب ألمانيا، وأنها ردت بالإيجاب، وهي بعد أن كانت قد ذهبت بجسمها عاريا إلى السرير، استيقظت لكي تلبس البذلات الضرورية لما بعد حرب أوكرانيا..
لقد كسر اولاف شولتز المحرمات وأول طابو قد أعلنه هو إعطاء بعد عسكري للسياسة الخارجية الألمانية.
في الوقت الحاضر، كل شيء يعني بأن المستشار يكون قد قطع مع نوع من التقارب الحذر مع موسكو وأن القطيعة ستكون مستقبلا عميقة..
ولعل القطيعة هي ترسيم التوجه الجديد بإعادة العسكرة في الوثيقة الدستورية، التي كانت تؤطر قدراتها العملية وتحد منها.
ما زال الوقت مبكرا على تقدير الآثار النهائية وصدى الأحداث ومدى اتساع موجاتها الارتدادية، ومع ذلك فإن كُتَّاب الجيواستراتيجية يستحضرون آثارا مشابهة تركتها تفجيرات 11 شتنبر أو سقوط جدار برلين سنة 1989.
ونفس التقدير يقول إن الحدود الجغرافيا للنظام السياسي العالمي تزحزحت، ذلك لأن «روسيا دحرجت العالم، وأوروبا بالتحديد، بيد من حديد، ودفعتها إلى العهد الجديد دفعا»..
قراءة ما يحدث ليست بالسهلة، فقد تغير «الكوض»، أي تلك الشيفرة الموروثة عن الحرب الباردة، ولم تعد تسعف في تفكيك رموز ما سيقع، ومن هنا يتأتى التشاؤم الذي عبرت عنه الكثير من العقول، ومنها عقل المؤرخة والمختصة في الحرب الباردة وما بعدها، «ماري ايلين ساروط» في مقال نشرته نيويورك تايمز….
فهي ترى أن «المواثيق المبرمة في تلك الفترة انتهت صلاحيتها السلمية، وظهرت أسلحة جديدة بدون اتفاقات مسبقة».
ويبقى النموذج الباهر على التحول الجذري والمثير في التوازنات والمواقف هو الذي تمثله ألمانيا..
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 16/03/2022