الجزائر: توازن الرّعب والشلل

عبد الحميد جماهري

عرفت الأيام القليلة الماضية، في الجزائر تطوراتٍ مفاجئةً، لمن يتابع حوْليات رجالاتها، أو يستحضر الظروف التي رافقتهم .
فقد عاد الجنرال وزير الدفاع السابق خالد نزار إلى الجزائر،قادما إليها من اسبانيا، معززا مكرَّما، بعد أن صدر حكم 20 سنة سجنا في حقه، ثم مذكرات اعتقال دولية، كما تمت تبرئة شقيق بوتفليقة، وإطلاق سراح مديرين للمخابرات، أحدهما الشهير توفيق، الذي طبع بطابعه الخاص المخابرات الجزائرية طيلة عقدين أو أكثر من الزمن، إضافة إلى المعارِضة لويزا حنون، السياسية الوحيدة وسط كوكبة الجنرالات المتابَعين.
وبدا أن الجزائر، صارت مسرحا للميثولوجيا الإغريقية، حيث É erysichthon إريسيشثون، الملك الذي عاقبته الآلهة بشهية فادحة، ينتهي به المطاف إلى أكل نفسه، بعد أن كان قد قطع شجرة مقدسة.
مع فارق جوهري، أن الميثولوجيا الحديثة للنظام الجزائري، يمكن تفسيرها
بالقاموس السياسي أكثر منه النفسي أوالرمزي.
والجديد فيها، أن البطل الأسطوري ينتهي به المطاف إلى ترميم نفسه بعد أن يكون
آلْتَهم
جزءا كبيرا منها.
نعرف أن العصب المركزي للنظام، هو قوة الرئيس في هندسة السلطة كما بناها عبد العزيز بوتفليقة والأجهزة الأمنية، التي تمتاز بنفس القوة، إن لم تكن أكثر.
ولا يمنع ذلك-بطبيعة الحال- وجود فاعلين اقتصاديين في قلبه، ترافقه ضبابية كثيفة في اتخاذ القرار، بين سياسيين وجيش وأجهزة مخابرات ورجال أعمال، في توازن هش يدوم بفعل التوافقات المتجددة في كل منعطف.…
لهذا، عندما تستعرالحروب بين الفاعلين، نجد أن الضحايا أوالساقطين، ينتمون إلى كوكبة متنافرة: فيها العسكري والمخابراتي والاقتصادي والسياسي …إلخ.
والبلاد لم تستطع أن تغتنم فرص الانتقال إلى سلاسة سياسية عادية وطبيعية ، لأنها أضاعت ربيعين على الأقل في مسيرة العقود الثلاثة الأخيرة:
الربيع الأول، كان بعد انهيار جدار برلين، بدايةَ التسعينيات من القرن الماضي، وهو ما تزامن وانطلاقَ الحرب الدامية الأهلية أو ما سمي بالعشرية السوداء… وتأجيل الانتقالات، التي استفاد منها كثير من شعوب العالم، وإفريقيا والمغرب الكبير.
ثم الربيع الثاني في العشرية الأولى من القرن الحالي، والتي تزامنت مع وجود بوتفليقة على رأس الدولة، وتركيز النظام حول شخصه والإدارة الأمنية..
فكان البلد أمام انتقال غير محمود العواقب، وغابت الكاريزما في السياسة، مع اختفاء تدريجي ومتواتر للجيل الذي قاد الثورة، وحمى أسرار النظام الذي أعقب الاستقلال في 1962.
وعندما استنفد بوتفليقة قدراته، بما فيها الجسدية، حصل الاختناق، وانطلق ربيع ثالث مع الحراك، لم تستفد منه البلاد مجددا.
وكانت النتيجة حصول شلل سياسي، دفع نحو عجز مقيم في تدبير مرحلة ما بعد بوتفليقة.. اللهم إلا بالطريقة التي تمت بها، أي بإقالته، وتفكيك موارده البشرية، بدءاً من شقيقه ومن رجالاته،…وهو أمرلا يغيب فيه التفسير النفسي، الذي جعل رجل النظام القوي الراحل قايد صالح ،الذي يسهر على إزاحة الرئيس بوتفليقة .
أما بالنسبة للشعب الجزائري، فقد ترك خارج الدائرة، وأخرج هو نفسه منها بعدم الدخول في اللعبة، من خلال مقاطعة الدستور، الذي بشره بالجزائر الجديدة..
وعوض أن ينكب النظام في صيغته الجديدة على استدراك الخصاص المهول في شرعيته الدستورية والشعبية، ارتأى أن يرمم ذاته بالعودة إلى التوازن القديم،كما لو أنها الطريقة الوحيدة لاستشراف المستقبل!
وتبدو المحاولات الحالية، كمحاولة لاستكمال لعبة سياسية متحكَّم فيها من طرف الجيش مع الرجل القوي فيه، الجنرال شنقريحة، للحفاظ على النظام
السابق وترميمه….
هكذا، بعد أن التهم النظام الجزائري نصفه ، يصرُّ الآن على ترميم ذاته، بالعودة إلى الجزء الذي قضمه منذ سنة تقريبا..
في ما يشبه قصة غرائبية في القرن الواحد والعشرين.
والواضح، أنه يريد العودة إلى براديغمه الثابت، أي القوة العسكرية – خالد نزار كوزير وجنرال- والاستخبارات – مدين الملقب بتوفيق وطرطاق- في توفير الدراع الاستعلاماتي، والموارد البشرية المتوفرة في الأجهزة نفسها أو في نسيج العلاقات بالجوار، وقد تنضاف إليهم القيادات المدنية في الركن الآخر من النظام، أي الركن الاقتصادي والحزبي، في الأفق المنظور. وهو ما يعني، استعادة المورد البشري القديم، لتنشيط العقيدة السياسية النظامية متمثلة في الاعتماد على القدرة العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية في تسويق القوة الإقليمية..

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 05/01/2021