الجزائر وحرب أوكرانيا : لعبة القط.. والغاز

عادة ما نقول إن لعبة القط والفأر، تنطوي على ميزة من ينتقل باستمرار بين المتنافسين، مما يؤدي إلى طريق مسدود أو جمود فعلي. إلى أي حد يصلح هذا التوصيف في حالة الجزائر والغاز بين روسيا وأوربا؟ لنرَ..!
سارعت الجزائر إلى دفع بيدقها الغاز في رقعة الشطرنج الغامضة في منطقة المتوسط وأوربا، بفعل تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية.
ولا تخفي الجزائر محاولة تقديم نفسها كبديل لروسيا في ضمان التمويل الأوربي من الغاز.
في البداية عبرت المجموعة الجزائرية للنفط والغاز (سوناطراك) عن »استعدادها لتزويد أوربا بكميات إضافية من الغاز عبر أنبوب الغاز الرابط بين الجزائر وإيطاليا، في حال تقلصت الصادرات الروسية بسبب الحرب في أوكرانيا، بحسب تصريح للمدير التنفيذي للشركة «.
وبالرغم من أداء الشرط في السداد المشروط، «في حالة تقلصت الصادرات الروسية»، فإن الجزائر تقدم نفسها من الآن كـ “»ممون” غاز موثوق بالنسبة للسوق الأوربية، وهي مستعدة لدعم شركائها على المدى البعيد في حال تأزم الوضع«.
غير أن المخاطب الجزائري يريد أن يقنع بأن هناك شروطا قبلية لـ»توفير كميات إضافية من الغاز الطبيعي أو الغاز المسال« للأوربيين، ومنها شرطان إجباريان هما »تلبية الطلب في السوق الوطنية«، و»الالتزامات التعاقدية« مع الشركاء الأجانب…
والشرطان هما في الواقع عقبتان لا يمكن تجاوزهما من طرف الجزائر نفسها. باعتبار. أن ضمان الطلب الداخلي ارتفع بشكل كبير، مع التزايد الديموغرافي، ثم عدم وجود بدائل طاقية أخرى تسعف في تنويع الاستهلاك والاستعمال الطاقي، وهو ما يعرف بالانتقال الطاقي.
أما الالتزامات التعاقدية، فهي أمر يكاد يشبه الابتزاز: تغيير الشروط بحيث تكون على المدى الطويل، وتضمن شروطا لفائدة الجزائر..في حالة ما عاقبها الحليف الروسي مستقبلا،أو خرج شبه منتصر من الحرب الحالية.

الواقع والخيال

حاول مدير سوناطراك الجواب، قبليا عن سؤال القدرة الفعلية لأنابيب الجزائر على تلبية الحاجيات الأوربية، وتعويض الكميات الهائلة للغاز الروسي الذي تستهلكه أوربا.
أولا في المقارنة بين الغاز الجزائري والروسي تقف الأرقام حجرة رهيبة في وجه تعويض غاز فدرالية روسيا بالغاز المتوسطي من جهة سقف التغطية :
= روسيا ثاني أكبر مصدر للنفط الخام في العالم، وتوفر أكثر من 40% من واردات الغاز الطبيعي السنوية للاتحاد الأوربي؛
= الجزائر تساهم حاليا بـ11% من احتياجات أوربا من الغاز.
فهل تملأ الجزائر الفارق بين الرقمين؟
بالرغم من احتياطاتها من الغاز، فهي تظل عاجزة عن إنتاج هذه الكمية وتصريفها، علما بأن الغاز لا يخزن ويجب أن يصل لمستهلكيه بمجرد إنتاجه..
بالنسبة للتسويق السياسي، تقول الجزائر إنها “تتوفر على قدرات تصدير غير مستغلة عبر أنبوب ترانسميد” الرابط بين الجزائر وإيطاليا مرورا بتونس، والتي يمكن أن تستغل في “زيادة الكميات نحو أوربا”.
وتبلغ قدرة نقل أنبوب الغاز “ترانسميد” 32 مليار متر مكعب سنويا، أي أربع مرات حجم أنبوب “ميدغاز” الذي يزود إسبانيا بالغاز الجزائري.
والحال أن تمويل إسبانيا وحدها عرف تعثرات مازالت موضوع تناول إعلامي، ووصلت إلى البرلمان الإسباني عندما أصبحت انشغالا يوميا للإسبانيين.! الجزائر تعرف أنها لا يمكنها أن تعوض وحدها الانخفاض في إمداد الغاز الروسي، ويلزمها لذلك مدة لا تقل عن أربع أو خمس سنوات« على حد قول مدير سوناطراك نفسه..
وقد تزامن هذا العرض الجزائري مع اجتماع طارئ لمجلس وزراء الطاقة في الاتحاد الأوربي في بروكسل، وهم يعلمون علم اليقين أن العديد منهم يعتمدون بشكل كبير على روسيا للتزود بالغاز.
وليس مطلوبا منا، ومني شخصيا، أن أكون ضليعا في علوم الغازيات، لنعرف أن اللجوء إلى الغاز الجزائري يبقى حلا، ولكنه حل لا يمكن أن يمر بدون آثار.. من جهة، ستكون الطغمة العسكرية أمام معادلة مفارقة باعتبارها حليفا استراتيجيا لروسيا بوتين وقبل بوتين، من جهة ثانية أعلنت سابقا أنها عاجزة تقنيا عن إيصال كل الغاز المطلوب استهلاكه إلى أوربا..
ولعل ذلك اتضح عند الحالة الإسبانية عقب وقف أنبوب أروميد الذي يمر عبر التراب الوطني المغربي.
والسؤال هو كيف ستعوض هذا العجز التقني؟
والأنبوبان، سواءالذي يمر إلى إسبانيا أو الذي يمر عبر تونس إلى إيطاليا، غير كافيين .. وهنا نتساءل: هل ستضغط دول الاتحاد الأوربي من أجل إعادة فتح الأنبوب الذي يمر عبر المغرب »أوالأرو=مغاربي«؟
وفي هذه الحالة لا بد وأن تكون للمغرب كلمته..وهو ما لن تقبل به الجزائر ولو بقطع.. غازها كله!
علاوة على ما سلف، قد تعمل موسكو على منع حليفها من إقامة علاقات مع أعدائها في زمن الحرب..
في الواقع ما يجري أمام العسكر الجزائري من كر وفر عسير يهمهم بالدرجة الأولى، حيث يرون عتادهم نفسه على المحك العملي، وهم يتابعون بروفات الحرب.
وقد كان قرار إعلان ألمانيا تعليقها الترخيص لخط أنابيب الغاز “نورد ستريم2” بعد اعتراف موسكو باستقلال المنطقتين الانفصاليتين المواليتين لروسيا في شرق أوكرانيا، قد فتح شهية الكثيرين لقراءته كباب مفتوح للجزائر.
والتجربة الألمانية وحدها تستدعي القراءة، إذ كانت الأزمة المتصاعدة بين كييف وموسكو، قد فرضت على برلين الإسراع في الحد من اعتمادها على الغاز الروسي، ومواجهة إخفاق دبلوماسية اتسمت على مدى أكثر من عشرين عاما، بمهادنة فلاديمير بوتين.
وتحدث الألمانيون عن «خراب دبلوماسي».
وتوعدت موسكو ألمانيا أصلا بصعوبات في مجال الطاقة في المستقبل. وقال الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف «أهلا بكم في عالم جديد سيتحتم على الأوربيين فيه دفع ألفي يورو مقابل ألف متر مكعب من الغاز».
وهذا المبلغ كبير بالنسبة لألمانيا التي استوردت في 2020 وحده 56,3 مليار متر مكعب من الغاز الروسي.
والتجربة الألمانية درس في حد ذاتها، لأن برلين التي كانت تعتمد بشكل كبير على روسيا، تسعى على الأمد المتوسط، إلى تغيير المُوَرّدين تدريجيا من خلال تطوير بناء محطات للغاز الطبيعي للحصول على الغاز المسال عبر البحر، من قطر أو الولايات المتحدة أو كندا.
وهي دول ستنافس الجزائر تقنيا وكميا …
ومن جهة رابعة، فالقرار. الجزائري أو العرض الجزائري بالأحرى، لن يكون له أثر فوري بخصوص تمويل الاتحاد الأوربي بالغاز، لكنه، بالإضافة إلى القرار الألماني تعليق الأنبوب الرسمي، سيطلق زيادات في الأسعار كما قال ميدفيديف
أما بالنسبة للمنافسة القطرية -الأمريكية، فهي ليست حلا على المدى القصير:
أولا، بفعل العجز عن الرفع من العرض أي الزيادة بالقدر الذي يعوض الغاز الروسي؛
ثانيا، لغياب منشآت للتخزين كافية، زد على ذلك أن البنية التحتية ليست مؤهلة لتوزيع الغاز المسال.
وقبل هذا وذاك، لا بد من حد أدنى سياسي لتمر العملية، بمعنى أن يكون الجميع: أوربا والجزائر على نفس النغمة سياسيا..إزاء الموضوع المطروح..
وإلى حد الساعة مازالت روسيا والجزائر حليفين في التعاون العسكري والتجاري في مادة الغاز والنفط، تعاون يجمع بين سوناطراك وبين »جازبروم« الروسية.. عادة ما تسميهما الصحافة الاقتصادية ب»»أوبيك الغاز« «من حيث أنهما تمارسان دورا في تحديد الأسعار …
تبقى الجزائر مرتبطة غذائيا بالروس..وهي ثاني مستهلك للقمح في إفريقيا، وخامس مستورد للحبوب في العالم، والمخزون الروسي لا يتجاوز ستة أشهر ..
لكن الأساسي بالجزائر هو قطع غيار السلاح الروسي، والذي تشاهده اليوم رأي العين وهو يجوب في الحرب، ويبدو أن الهالة التي أحيطت بالسلاح الروسي لا يستحقها عندما يوضع في الجبهات.. وربما تقرأ الجزائر اليوم الحرب من زاوية سلاحها الروسي…
ولا شك أن الجزائر ستحاول اللعب على حبال الغاز، فقط لتموقع آخر في أوربا … ضدا في المغرب وليس خدمة لمصالحها، لاسيما بعد أن ترتفع مداخيل النفط والغاز من جراء الحرب..