الجنائية الدولية :نعم ثم نعم … ولكن! 1 ـ القرار تتويج تاريخي لـ15 سنة من الترافع القانوني الفلسطيني
عبد الحميد جماهري
بلا مواربة، يعتبر القرار الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية، لحظة تاريخية، أنقذت العالم من عار التواطؤ مع الإبادة. ولعلها كذلك حفظت بعضا من الأمل لكل الذين يؤمنون بالعدالة الدولية، كما ساهمت في إنقاذ بعض من شرعية المحكمة الجنائية صاحبة القرار نفسها. وقرار برَّأها ومنحها حق الرد على تهمة توظيفها من طرف القوى الكبرى لاسيما منها الغربية ( بعد حكمها في قضية فلاديمير بوتين واتهامه في حرب أوكرانيا). ولعل المحكمة حافظت كذلك للذين ما زال يراودهم الأمل في جدوى الأمم المتحدة، على بصيص من الضوء .. وهو في المحصلة قرار تحول كبير، يتوج مسعى فلسطينيا متواترا طوال 15 سنة من أجل تغيير موازين القوة دوليا، بواسطة آلية دولية رفعها رئيس وزراء إسرائيل إلى مرتبة »خطر استراتيجي« منذ 2021!
أول عناصر قوة القرار هو أنه لا يتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تمت وانتهت مدتها، بل هي جرائم ما زالت قائمة ومتواصلة، عبر البث المباشر وبالدليل الحي ( الرصاص الحي في الواقع)! ولعل ذلك من علامات تفرد هذا القرار بالاعتقال..
وهو إلى جانب وقوفه ضد إبادة وبشاعة حربية، يتيح للرأي العام القدرة على استشعار ما والتنبيه إلى ما يحدث باستمرار هاته البشاعة: ويمكن أن نجمل القول بأن للقرار وظيفة عقابية، لكنها في الوقت ذاته استنكارية وتحذيرية..
يهمنا في البداية أن نبرز القرار بما هو لبنة في صرح الحق الفلسطيني، وتتويج لمسار فلسطيني أمام محكمة العدل الدولية.
مسار بدأ قبل دخول دولة فلسطين إلى حرم المحكمة ثم أثناءه ثم بعد ذلك قبول عضويتها ضمن الدول العضو في الجنائية الدولية.
ومن النزاهة القول إن الإعلام الغربي في عمومه، حتى وإن كان ميله إلى دعم دولة إسرائيل لا غبار عليه، قد تناول الأمر بمهنية في متابعة تطور الملف، ومن بين العناوين التي تستحق التقدير يومية “»لوموند”«، التي لا يمكن لأحد أن يتهمها بمعاداة إسرائيل، والتي وضعت القرار في تطور مساره الطبيعي والحقيقي وكشفت تفاصيله منذ يوم 24 يونيو 2015 عندما جلست دولة فلسطين لأول مرة في مقعد الدول أعضاء المحكمة في لاهاي. كانت تلك مرحلة فارقة في خضم معركة تلاقت فيها مسارات الديبلوماسية والسياسة والقضاء.
في ذلك اليوم صرح سفير فلسطين في هولندا، نبيل أبو زنيد، قائلا:» من الآن فصاعدا قد أصبحنا والإسرائيليون جيرانا في السجن، لكنهم لن يحتفظوا بالمفاتيح..«
والخطة كانت بذاتها تتويجا لمعركة تم خوضها من رام الله وغزة ونيويورك وليون الفرنسية.. بهدف ثابت هو وضع القضية الفلسطينية على جدول أعمال المحكمة الدولية الجنائية..
كان يوم الخميس 21 نونبر عند صدور القرار يوما لتتويج هذا المسار.. بعد ست حروب في غزة وآلاف المئات من الشهداء، وعمليات الهجوم واحتجاز رهائن كما رواها المؤسس راجي الصوراني، الذي جمع الحجج والقرائن والدلائل وتوجه باسم المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، في صيف 2006 بعد ما جمع ما جمع وتوجه إلى لاهاي للقاء لويس مورينو كامبو، أول مدعي عام للمحكمة حديثة العهد وقتها: ولم يشجعه، “»لقد سعى إلى تثبيط عزيمتي منذ البداية، وقال لي بأن الأمريكيين لن يقبلوا بذلك، وهو لن يفتح التحقيق أبدا«”.
مع كل حرب، كان الفلسطينيون يسعون إلى تغيير موازين القوة على الجبهة الحقوقية كما قال أحد الوجوه المؤسسة للنضال السياسي الفلسطيني فيصل الحسيني: “»يمكنني أن أهزم مايك طايزن، ولكن ليس في مباراة للملاكمة بل في الشطرنج«”، وطوال الفترة الفاصلة بين ذلك التاريخ واليوم، سعت إسرائيل إلى تعطيل قرارات المحكمة بكل الوسائل: اقتصادية وديبلوماسية وأمنية …
في 2011 أعلن رئيس السلطة بأنه سيسعى لحصول فلسطين على عضوية كاملة لدى الأمم المتحدة، وبأن يجعل من الصراع قضية قانونية وليس سياسية فقط، وذلك لفتح المتابعة ضد إسرائيل«.. المدعي العام أوكامبو الذي سبق ذكره عقد لقاء سريا مع ممثل إسرائيل ولو لم تكن عضوا ! وحدث أنه» قبل مغادرة عمله وجمع حقائبه….أعلن إغلاق الملف«!!! وقتها أعلنت فرنسا وبريطانيا أنهما تقبلان بالدفاع عن عضوية فلسطين في الأمم المتحدة إذا ما هي تخلت عن … اللجوء إلى … ( السلاح؟..كلا) إلى محكمة العدل الدولية.!. وهو ما دفع راجي الصوراني إلى التعليق بالقول”»لقد بذلوا المستحيل من أجل ألا نتوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية«”.
بعد ذلك سيسهل الوضع الذي حصلت عليه فلسطين باعتبارها عضوا ملاحظا غير عضو في الأمم المتحدة فتح لها أبواب نحو 63 منظمة متعددة الأطراف واتفاقية، من بينها الجنائية الدولية.. ولما اندلعت الحرب في غزة عام 2014، ترددت السلطة في توقيع الاتفاقية، بعد تعليق الملف لعشرة أشهر تسهيلا لمهمة جون كيري مبعوث باراك أوباما، وقتها، لشؤون السلام، وكانت السلطة تخشى أن تستعمل المحكمة في إدانة ..حماس! ولهذا اشترطت للتوقيع على الاتفاقية بعد موافقة الفصائل كلها.. واحتفظت فلسطين بالورقة للتلويح بها، إيمانا منها، (وعن صواب) بأن الأهم هو توقيع اتفاقية سلام مع الاحتلال عوض اتفاقية انضمام إلى المحكمة الدولية وحدهاَ..
بعد رفض عضوية الدولة الفلسطينية، لم يبق للسلطة أدنى مبرر للتردد، ولاسيما بعد موافقة حماس على احترام القانون الدولي في مقاومتها المسلحة.
ويوم 2 يناير 2015 وضع عباس أبومازن رسميا طلب الانضمام إلى اتفاق روما لدى سكرتارية الأمم المتحدة.. في الوقت نفسه تولت Fatou bensouda الغامبية المتزوجة من المغربي بنسودة، منصب المدعي العام في المحكمة، مما أتاح تقدم الأمور نوعا ما. بحيث فتحت تحقيقا أوليا في حرب 2014 ضد غزة، ومعها أصبحت فلسطين دولة عضوا ابتداء من يناير 2015… نشطت الجبهة الحقوقية الفلسطينية حتى قيل إن المحكمة كانت تتلقى شهريا أطنانا من الوثائق، ووضعت إسرائيل المدعية العامة فاتو بنسودة تحت المتابعة ووصلتها تهديدات من الموساد في عهد يوسي كوهين صديق نتانياهو.. وفي ربيع 2018 مع ارتفاع درجة المواجهة. واندلاع مسيرات العودة مع ذكرى النكبة وسقوط العديد من الضحايا، وإعلان قرار دونالد ترامب بنقل السفارة إلى القدس.. كل هاته التطورات دفعت محمود عباس إلى اللجوء إلى المحكمة وتم رفع العلم الفلسطيني على واجهتها وتم تسليم شكوى رسمية بفتح تحقيق حول الأبرتهايد من طرف وزيره رياض المالكي .. وبالرغم من أن إسرائيل لم تظهر في الصورة فقد نابت عنها الدول التي قبلت القرار حاليا، وقالت إنها ستنفذه، منها بريطانيا وكندا وأستراليا وألمانيا والبرازيل التي عارضت يومها فتح التحقيق، باعتبار فلسطين ليست دولة عضو في الأمم المتحدة.. في مايو 2012 فتحت فاتو بنسودة التحقيق في أراضي 67 واعتبرت كل الجرائم المرتكبة في 2014 موضوع بحث..
ومن الخلاصات المرحلية التي تستوجب التأمل أن »إسرائيل لم تر أن عليها الدفاع عن نفسها بالاستناد إلى قضائها ولا سعت إلى تخلي المحكمة عن الملف وتنازلها عنه، بدعوى أن محاكمها قادرة وذات أهلية لمعالجة الملفات المعروضة على المحكمة الجنائية الدولية..« . فقد كانت تقدر بأن ذلك يعد اعترافا منها بالمحكمة فأحجمت عن ذلك..
المفارقة التي وقعت فيها أمريكا المساندة، ظهرت بوضوح مع المدعي العام الجديد »كريم خان« الذي اعتبرته العديد من الأطراف الفلسطينية منتصرا لإسرائيل. فقد دافعت أمريكا بكون الدولة التي لم توقع على اتفاقية روما لا يمكن أن تكون عرضة لأحكام المحكمة، كما هو حال إسرائيل وأمريكا نفسها، ولكن حدث أن وقعت الحرب في أوكرانيا، وحدث أن تم إصدار قرار اعتقال بوتين، وروسيا ليست عضوا في المحكمة، فوقعت إدارة بايدن في ورطة التناقض عندما اعتبرت أن المتابعة في حق بوتين ..مبررة!
فظهر منطق الكيل بمكيالين في أوْجه! واندلعت أحداث 7 أكتوبر.. جاء الرد الإسرائيلي الذي كان موضوع البحث وقام المدعي العام كريم خان» بزيارة خاصة« إلى إسرائيل.. بدعوة من عائلات الرهائن!
في يناير 2024 قرر القضاة في محكمة العدل الدولية. الهيئة القانونية الثانية الدولية في لاهاي، أن هناك خطر الإبادة في غزة ! وتزايد الضغط على كريم خان الذي بدأ يتعرض للتهديد كما في حالة أعضاء من الكونغريس الذين خاطبوه بلغة “الكوبوي”: “استهدف إسرائيل وسنستهدفك«”، غير أنه صمد، وقرر الاستماع إلى ضميره، وفي يوم 20 ماي 2024 قرر إحالة قرارات الاعتقال على القضاة، فصدر القرار باعتقال رئيس وزراء إسرائيل ووزيره في الدفاع سابقا .. كما شمل القرار زعيم حماس محمد ضيف، المسؤول العسكري عن الحركة.
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 26/11/2024