الحاجَّة ترحل وتترك البحر وصية ..!

عبد الحميد جماهري

اعتدت رؤيتها، في ذلك الفندق الشهير بمدينة المضيق كل صيف. مرات عديدة تزامن قضاء عطلتي رفقة أسرتي الصغيرة، مع إحيائها للحفلات الليلية، على جانب المسبح، وعلى مرأى من البحر..
نفس الصوت، لم تسقط من كريستاله أي شظية بفعل الزمن..
نفس الوقفة..
ونفس التمايل الهادئ، الذي بدا بالفعل أنه تأثر بتجاعيد الوقت..
الحاجة، كانت أقرب الفنانات الشعبيات إلى مزاجي..
ربما لإيقاع العيطة، المسترسل بلا تعقيدات مقامية…
لست خبيرا للغاية في المزاج الفني، لكني كنت أعرف بأننا مررنا، كأبناء جيل من اليساريين، من صحراء فنية، كنا نحدد الذوق الفني على ضوء البيان الشيوعي والاشتراكية الواقعية…
لم يسلم التراث الشعبي،إلا متأخرا، من غارات الكومندوهات اليسارية…، مع ذلك، كنا نشعر بأننا نعمد إلى تزييف شعورنا، عندما نُؤَدْلِج الذوق، وندعي بغير قليل من الغرور أن المستوى الثقافي يحدد نضج الذائقة ..
يا للأيام المستعصية على الحياة..
كنا نعوض الحياة بالإديولوجيا..
من أعلى ستة عقود، أستعيد البهجة في لازماتها الشعرية، والكلمات التي لا تزال تصنع أسطورتها الخاصة في وجدان جماعي مفتوح على إيقاعاتها، كما تفتح غابة في وجه الريح البحرية..
لو كنت بطل روايتي، لكنت قد وضعت في الحبكة اكتشاف صوت الحمداوية، منعطفا لذائقة فنية تربت في سهوب الركادة والنايات والغرناطي..
نغم ومواويل، تجاري الأنهار إلى مصبها الأخير..وتختمر مع فضة القمر في ليالي الصيف المضيئة..
أشواق، مترعة بالسولفيج البدائي، كما حملته الأصوات الربانية لشيوخ الناي والقصبة والبندير..
كانت المجموعات الشبابية هي التي جاءت بالشعبي إلى تخت الشرق ووديانه ولياليه الحافلة..كل عرس!
مجموعة، كنت أعيش في محيطها، تتكون من قلب نابض، فيه عماري بلقاسم، عبد السلام الشلح وحميد فتاحي، وياسين بلاخة وعزيز غربال.. في عتبة ما من البوهيمية الشعرية، اعتبرنا أن جملة «أنا بعدا مقابلة البحر لا يرحل»، إرهاص بادائي، ينبئ بشاعرية الكارثة من وراء رحيل البحر. ونقلها البعض منا إلى شعراء عرب مشهورين كدليل على أن العامية المغربية قابلة لاحتواء الجملة النثرية الأكثر سوريالية : (رحيل البحر)، بدون التفريط في إيقاعها الشعري وبحتها الأطلسية..
سنعود في الثمانينيات إلى نفس الجملة، وهي تستدرج الخيال الروائي للكبير محمد عزالدين التازي، ثم في السينما مع بداية الألفية الثالثة، مع فريدة بورقية في فيلمها “رحيل البحر”… بطولة ثريا جبران، محمد بسطاوي، محمد خيي، عبد لله العمراني، فاطمة وشاي، بنعيسى الجيراري، طارق البخاري، عزيز الحطاب، حنان الإبراهيمي، بشرى إيجورك… إلخ إلخ..
كانت الحاجة رفيقة العاشقات والعشاق، الذين يعترفون بالطابع البلدي للحب، ويعشقون عاميته، في أغانيها..
دابا يجي الحبيبة دابا يجي
والساهرة على العدة الفنية للسهر
«الكاس حلو..»
أغنيتها هي الشيفرة التي تكشف حال المحب، وعنف رغباته وطيش قلبه على أبواب الثالثة ليلا :اش جا ايدير..
شيئا فشيئا بدأنا نتصالح مع التراث الفاخر لأغنية شعبية، تميل إلى المدنس وكان مرتبطا باسم مقدس:الحاجة..
صالحنا الراحل الخطيبي مع الجانب العفوي في هويتنا الفنية، الجانب الطازج والحر، عندما بحث في أسمائنا الجريحة..وفي ثنايا الجسد المغربي!
ومن المفارق أن ترحل هي، وتترك البحر وراءها وصية وأمانة لدى الفنانين والعاشقين… ولا صوت «يحضيه»!

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 07/04/2021