الحرب بين حقل الألغام وحقل الحبوب..

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

مثل الميت في قبره، لا يبقى في الخندق سوى الجندي الأوكراني. فما تم تقديمه لساعات وأيام وشهور، كصراع بين حلف الناتو وروسيا، تبين من أول طلعة صاروخ أن الحرب تدور على جبهة روسية أوكرانية محضة.
ربما لأن الغرب، الذي كان يقوم تارة بدور حارس الشرف العسكري لديموقراطية ما بعد الحرب الباردة، وتارة أخرى بدور بائع سلاح متجول يدافع عن الصفقات، يدرك قبل غيره أن حلف الناتو، أصبح ضمن سلة الأمنيات المستجدة، بعد أن صارت أوربا، «يتيمة حلف الأطلسي(الناتو)» وبحثت أمريكا وإنجلترا عن حلف أبعد قليلا يجمعها بأستراليا في أعالي البحر الهادي والمحيط الهندي..
الأكثر تفاؤلا أمثال إيمانويل ماكرون قالوا بأن هذا الحلف يوجد في حالة «موت دماغي» كما سبق أن أنذر بذلك، في 2019، الرئيس الذي ترأس بلاده الاتحاد الأوربي، أما الذين يتمسحون بآمال ما بعد الحرب الباردة، فيشعرون أن نبضه منخفض لكنه يتماثل للشفاء، وأن أزيز الرصاص وانفجارات القنابل والصواريخ، شكلت الصدمة الكهربائية الضرورية لخروجه من غيبوبته السريرية بالإنعاش الإجباري..
بيد أنه لاشيء مؤكد في هذا التوصيف.
حتى ولو استفاق حلف الناتو، فلن يدخل الحرب. كما أن أوربا بدورها لن تدخل الحرب، بل كل بلاد ستعبر بقيادتها الخاصة عن النشيد الذي تريد أن يسمعه الموتى والهاربون من الأوكرانيين..
والذي عرف القصة جيدا هم الأوكرانيون الذي شعروا كما لو أنهم غُرِّر بهم : وعدوهم بزواج بعد الطلاق مع روسيا، على غرار ما فعل الغرارون بعائشة الجميلة في قصة الندر والفكاهة المغربية المعروفة..
وأقصى ما يطالب به الأوكرانيون الآن، هو عودة فلاديمير بوتين إلى طاولة المفاوضات لا غير…فهم يعرفون أن الطاولة وحدها يمكن أن تختبئ وراءها الدولة الأوكرانية من أجل مخرج بأقل الخسارات.ولاشىء يهزم الحرب التي يريدها بوتين سوى قلم حبر لتوقيع اتفاق ما..
وذلك ما سيفعله فلاديمير بوتين، ولكن بعد أن يغير من الخريطة السياسية في أوكرانيا ويجلس مع الأوربيين حول مطالب تعود إلى… 2000.
إما يكون جزءا من الهندسة الجديدة الأمنية في أوربا، أو أنه سيوقف الانضمامات والتغيرات التي تتم في محيطه. كتوسيع الناتو أو تغيير الطبيعة السياسية للحقل الأوراسي.
في «المشهد الذي سيعقب المعركة»، كما في عنوان رواية خوان غويتيسولو، نرى من الآن حقل ألغام واسع يغطي نصف الكرة الأرضية وكائنا سيشعر باليتم مضاعفا، هو رئيس أوكرانيا، والعديد من الدول «يتامى حلف فارسوفيا» التي تتابع ما يقع وسيقع بعجز يشبه عجز أوربا، «يتيمة الحلف الأطلسي»، إما بفعل مكر التاريخ أو من جمود الجغرافيا؟
المهم أن السياسة تلعب حينا بالتاريخ وتلعب دوما بالجغرافيا..
وعندما يدخل المتنافسون إلى حرب لا تعنيهم، فهم عادة ما يشيعون الموتى ويعرضون الأثواب والتوابيت وورود التعازي، وبخاخات العطر الجنائزي أكثر من شيء آخر.
للأسف هذا ما فهمه رئيس أوكرانيا متأخرا.
هناك مصلحة في الحرب، وكل دولةستقيم ذلك بمنظار مصلحتها الوطنية، وما سيأتي من بعدها يهم قوتها اليومي وأسعارها وأبناءها الفقراء.
بالنسبة لنا نشعر من الآن بفورة المحروقات وننتظر الرياح السوداء التي ستغمر المزاج الوطني العام، ونشعر أيضا بأن القمح، لم يكن مرًّا في حقول الآخرين كما يكون راهنا، لأننا دولة تأخذ وارداتها من النفط والغاز من روسيا بنسبة 20% واحتياطها من القمح والخبز يحتاجهما معا، روسيا وأوكرانيا..
وستفتح مضاربات دولية في الطعام والغذاء، كما أن روسيا سوق مهمة للغاية في مجال النفط الخام، وأي انقطاع، ولو نسبي، سيرفع الأسعار عاليا بالنسبة للمغرب بشكل مضاعف، حيث أن نسبة استيراده للنفط الروسي مهمة.ولو كانت هناك أية عقوبات توقفه، سيكون علينا أن نزيد من همومنا بنسبة الخمس!
ولنا علاقات توتر مع جيران سيسارعون إلى اللعب على تفضيل روسيا للسلاح في الدفاع عن نزوع روسي في أوكرانيا في منطقتين أعلنتهما دولتين شعبيتين..
غير أنه لنا علاقات مع روسيا، ضمن منطق واسع، ربما تدافع عنه روسيا نفسها، هو منطق تنويع الشراكات بناء على المصالح الوطنية. وهو ما لا يمكن أن تُغفله الدولة الحليفة اللكبيرة لنا، الولايات المتحدة التي تعرف حدود التحالف في قضايا خلافية بعيدة، بهذا الرد أو ذاك، عن المصالح المشتركة..
نحن نعتقد بفعل الزمن أن التاريخ أوصلنا إلى نقطة صارت من الماضي، غير أن الجغرافيا وعنادها تستعين بسياسة المصالح لكي تعيدها لنا في الحاضر.
في هذه التعرجات التي تطرأ في غفلة من اليومي، وجد فلاديمير بوتين طريقا إلى استعادة الماضي القيصري الستاليني المشترك..وربما سيصادفه العالم في المتوسط وإفريقيا والشرق الأوسط، وقد يبالغ في تأجيج الصراع معه في مناطق تعد مجال تحركه. وهي مناطق توجد في صميم الريادة الإقليمية التي نريدها، والبحث عن المشترك في خدمة السلام والمصالح الوطنية هو السهم التوجيهي curseur الذي يجب اعتماده دوما وأبدا..

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 26/02/2022