الدعم المباشر والجيل الجديد من البرامج الاجتماعية

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
حدث التوافق داخليا وخارجيا أن المغرب اختار، بإرادة بدون الحاجة إلى رهان قوة اجتماعي وتمرد طبقي محرج، الدخول في مسار الدولة الاجتماعية، حتى صار أن هكذا مفهوم وواقع تطلب بروزه حوالي قرنين في الدول الغربية، منذ أيام بسمارك وبروسيا العظمى كما يقال، عاد متداولا كأي مصطلح يملأ التحليلات ويحضر في كل المقالات والتصريحات السياسية ….
وقد يكون من الإنصاف أن نتحدث، في التاريخ الاجتماعي المغربي، عن بينغ بانغ، شبيه بلحظة الانفجار التي تشكلت منها المجرة المغربية التي نحن بصدد تشكيلها، ولابد لتقدير هذا الانفجار الكبير في أسلوب تدبير الدولة ومطالب الشعب، من العودة إلى بعض من تاريخ المفهوم وسياقه.
فالدولة الاجتماعية، كمفهوم معاصر، هي ضمان تلبية حاجيات المواطنين العاجزين عن تحقيقها بأنفسهم؛
وعموما كانت الليبرالية الصاعدة تعتبر بأن المنطق هو أن الحياة ومصيرها مسألة أفراد..باعتبار أن النظام الاقتصادي في جوهره هو عمل أفراد يحرصون على ضمان مصالحهم الذاتية، ويتفاعلون في ما بينهم في مساحات اجتماعية واقتصادية هي السوق. ومن هنا، تعبت الأدبيات اللبيرالية المتحررة من أي دور اجتماعي للقول بأن التلاميذ يدرسون برعاية آبائهم، وإذا كان هناك عجز يعالج عن طريق الاقتراض، والصحة هي حاجة فردية يسهر عليها الفرد لنفسه، والادخار يحل معضلة التقاعد عند العاملين الذين يعرفون أن قدراتهم الجسدية ستزول مع الزمن، كما يمكنهم أن يعودوا إلى صندوق الإيداع العائلي في حالة فقدان الشغل.
ولربما تذكرنا هذه الترسانة اللغوية بخطاب وزراء حكومة الأستاذ عبد الإله بنكيران، الذين كانوا يدعون صراحة إلى زيارة الجيب العائلي لمن أراد أن يدرس أولاده، والتحرير الكامل لقطاع الصحة، وما إلى ذلك من أدبيات بدائية لليبرالية…
هذا المنحى، بمديح السوق والليبرالية الانعزالية، هو الذي كانت تعد به الحكومات وهي تحلم مكان الأثرياء..بمدارس لبلد فيه بلدان: هنا أو هناك وأطباء هنا أو هناك ومعاشات خاصة هنا أو هناك..
من الناحية النظرية التي ذكرناها، يستطيع المغربي أن يعالج وضعه وتحقيق تمدرس ابنه وضمان تقاعده وتغطيته الصحية، بيد أن الواقع غير ذلك، حيث أن النجاعة تفترض بالضرورة والإجبار، حلا جماعيا تقدمه الدولة الاجتماعية…
وفي الواقع عند إطلاق ما تواضعنا جميعا على تسميته بالثورة الاجتماعية،أو ما تعد به الدولة الاجتماعية، في المغرب الحديث، هو ما كانت النخبة العليا وحدها تستفيد منه:تعليم نوعي،علاج مسترسل ودائم ورفيع، وتقاعد مع تغطية صحية بدون حمل همّ !( في المغرب اليوم انتقل عدد المستفيدين من التغطية الصحية من 7،8 مليون في 2020 إلى23 مليون في أبريل 2023 ، كما أن ملفات الضمان الاجتماعي ارتفع عددها بشكل انفجاري، إلى أزيد من 60 ألف ملف بمعدل 123 ملفا في الدقيقة!) …
ما طرحه محمد السادس، منذ سؤاله الخالد أين الثروة؟ هو أن الحل الاجتماعي الذي تقدمه الدولة هو الحل الأكثر نجاعة وفعالية…
ولعل البداية أو الشرارة كانت مع خطاب العرش 2020عندما تجلت بالأساس الإرادة السياسية بانخراط الدولة في إقامة نظام اجتماعي يقترب من العدالة ويقلص الفوارق…
ومن ذلك، تغطية صحية عامة، تمول أساسا من طرف الدولة باعتبار ذلك الصيغة الفعالة الوحيدة لضمان علاج للجميع، وباعتبار ذلك مطلبا شعبيا وهدفا له شعبية عارمة.. التعويض عن فقدان الشغل، يتم بروح تضامنية عبر الضريبة وعبر اقتطاع المساهمات في التقاعد وفي البطالة، وهو ما يفضي بنا إلى تقليص جدي ومعتبر للفقر كما يحظى بدعم شعبي واع،« كما كتب ذلك باحث ماركسي غربي…
لم تبرز لحد الآن أية أصوات، كما قبل الكوفيد وأيام حكومة عبد الإله بنكيران، التي تعتبر أن حجم الدولة الاجتماعية ومساحاتها لها آثار سلبية على النمو، في حين تبين أبحاث توماس بيكيتي مثلا أن نمو الدولة الاجتماعية في دول الغرب في القرن العشرين، رافقه نمو استثنائي وعادل وشامل..بل إن الحماية الاجتماعية هي بدورها استمرار أساسي مساهم في النمو الاقتصادي، بجعلها لصالح الفقراء.ووسيلة فعالة في مواجهة الفقر.(لا ننسى أن المندوبية السامية للتخطيط قالت بأن الفقر عاد إلى نسبته كما في 2014، بعد الكوفيد )
ولعل ما يعنيه ذلك، في منطق معاكس، هو أن العاهات الاجتماعية التي تتلخص في كل ما تعطلنا في الشروع فيه، فيه عرقلة للنمو الاجتماعي الشامل والرفاه الاقتصادي المشترك …
الدولة الاجتماعية بلغت درجة المبادرة ويمثل الدعم المباشر أعلى عتبة..من هذا الالتزام، وعنوانا بارزا للتحول الحاسم في تاريخ الدولة الاجتماعي في المغرب، يشكل إلى جانب مقومات أخرى، كالتفاوض الاجتماعي والتأمين الصحي والتعويض عن فقدان الشغل، ما هو أكبر من »الصدقة العمومية« التي تقدمها الدولة الحامية أو دولة العناية!providence
فالدعم الاجتماعي المباشر يضم ثلاثة إجراءات أساسية تهم الدعم الاجتماعي المباشر للأسر المستهدفة التي لها أبناء، والدعم الاجتماعي المباشر للأسر المستهدفة التي ليس لها أطفال أو يتجاوز سنهم 21 سنة، ومنحة الولادة؛ تزامن مع توسيع رقعة المستفيدين منه، كما تزامن مع دعم الاستفادة من السكن وتثمين التطبيب عن بعد، باستعمال الأدوات الحداثية( الحديثة) في صناعة سياسة القرب الصحي.
ومن الأساسي أن يتم تقدير الدعم الاجتماعي أولا، من حيث هو نفسه ثورة، وأيضا من حيث هو ثانيا جزء من ثورة اجتماعية تعيد تعريف الدولة المغربية وتعطيها البعد الاجتماعي العميق الذي يساير النهضة الاقتصادية.
هوامش:
– الميزانية الإجمالية لبرنامج الدعم الاجتماعي المباشر ستبلغ 25 مليار درهم في 2024 و 29 مليار درهم في 2026؛
– هذه الميزانية تنضاف لـ 10 ملايير درهم التي تخصصها الدولة سنويا لتعميم التغطية الصحية الإجبارية على الأسر الفقيرة والهشة؛
– هذه المخصصات تمثل ميزانية سنوية تقارب 40 مليار درهم بحلول سنة 2026، تخصص لشقي التغطية الصحية والدعم الاجتماعي المباشر من ورش تعميم الحماية الاجتماعية؛
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 31/10/2023