الراحل طلال سلمان مخفورا بشاعر أسير

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
مضت 13 سنة ونيف على لقائي بالراحل طلال سلمان، وهي المدة نفسها التي قطعتها ذاكرتي عن بيروت، التي زرتها باسم المؤتمر الدولي لمناصرة المقاومة، متمثلة في حزب لله، الخارج وقتها من حرب مارون الراس. احتفظ بالذكريات، وبعضها شحب وانطفأ منذ عرفنا أن حزب لله، الذي ناصرناه كقوة وطنية تحارب من أجل جنوبها الحر، صار يناصر من يريدون اقتطاع جنوبنا العائد إلى حرية الوطن. لا يغريني في الذكرى سوى ما ارتسم في ذهني من زيارة الأمكنة وما علق بالروح من سريرة طلال سلمان وعباس بيضون.
ولجنا المكتب، سعود الأطلسي وحسن طارق ومحمد العباسي وعبد ربه، وجدناه فارع القامة. وجهه مبتسم لا شفتيه، صارم القسمات مع ذلك، مد يدا للتصافح، بقوة وحرارة، جاء صوته الفينيقي الرزين، غريقا في رائحة الدخان:»أهلا»، تصعد من بحة لبنان الخالد..
أذكر حبه للمغرب، وانصياعه لإرادة زوجته لقضاء عطلها في بلادنا وحديثه المسهب عن دردشاتها بعد كل زيارة.
أذكر أن حديثنا عن الصحافة الجادة قادنا إلى لعبة سؤال جواب، سألته: ما معنى أن تكون الصحافة جادة؟
أجابني: معناها أن يكون الصحافي فقيرا!
وقهقهنا وابتسم..
كتبت عن هذه الزيارة لمقر «السفير»، آنذاك، في افتتاحية عدد 22 يناير 2010: كنا هناك، حسن طارق وسعود الأطلسي وعبد ربه الضعيف، في مقر السفير ببيروت، التي زرناها ضمن فعاليات الملتقى العربي والدولي لدعم المقاومة، لم نكن نشعر بغربة . فعلى صفحات «السفير»، وبكلمات النور المتقدة النابعة من التزام كتابها ومناضليها الوطنيين والتقدميين والمهنيين، كبرنا وتشربنا الفكرة النبيلة للصحافة، كما قرأنا العالم ورأيناه بعيون كتابها ومحرريها.
لقد كان اللقاء على زمنين، في المرة الأولى جلسنا إلى طلال سلمان نحن الثلاثة، وتواعدنا على الزمن الثاني، حيث الجلسة التي حضرها عباس بيضون، القامة الشعرية الكبيرة، وأسطورة الشعر اللبناني الحديث، والذي يشرف على الملحق الثقافي، ثم نصري الصايغ الذي يشرف على صفحة الآراء، وانضاف إلى وفدنا، الزميل محمد عباسي، الذي حضر إلى الملتقى الدولي باسم الفدرالية الديموقراطية. لقد كانت فرصة من مداد وود وتقدير كبير، وكانت فرصة لكي نعبر أساسا عن حبنا للبنان وعن تقديرنا لجيل «السفير» الكبير، واهتمامنا بشؤون لبنان..
إننا نشعر باعتزاز كبير ، بخصوص الثقة التي بادلنا إياها الأستاذ والفاضل طلال سلمان، ومعه فريق العمل الذي جلسنا معهم لنتحدث عن المغرب وعن لبنان وعن تقاطعاتنا في الجغرافيا الكبرى للثقافة وللإبداع، والجغرافية المحدودة للسياسة وللاستراتيجيات.. وكالعادة كان اهتمام إخواننا اللبنانيين ببلادنا وحضور المغرب كبيرا جدا..”.
لم تعد صورة حسن نصر لله في ذاكرتي سوى نسخة باهتة عما كان، حقيقة: سألقى لله بلا خجل في هذا الباب. بقيت صورة محمد بن سعيد ايت ايدر ناصعة، مهيبا وسط الوجوه القادمة من جهات العالم، وبقيت صورة خالد السفياني، وهو يتحرك مثل زوبعة نظيفة يتحدث باسم المؤتمر الدولي، مشرقا في انحيازه العروبي بلثغته المغربية الفصيحة، بقيت الذكريات الجميلة مع العباسي وطالع وحسن.. وبقيت قصة الشاعر البهي عباس بيضون.
في شهر يناير لا تكون بيروت قد عدلت مزاجها الشتوي بعد، وتكون بيروت كعادتها في تاريخ الفينيقيين قادرة على إيقاد الشموع، أسوة برجالها المقاومين، في بيروت 2010، كنا على موعد مع الملتقى العربي الدولي لدعم المقاومة، كانت الشتاء في منتصف كانونها الثاني.
وأذكر أن أزيد من خمسين دولة حضرت عبر شخصيات وتنظيمات وفعاليات، وكان خالد السفياني وقتها هو قطب الرحى في تلك الجموع، من ذلك اللقاء ما زلت أذكر المجالسة القيمة لطلال سلمان، صاحب السفير.
كان اسمه يحضر عندنا قبل أن يراه كثيرون منا.. بالنسبة لقراء الصحافة العربية، كان صاحب «على الطريق» و«هوامش» رجلا بصوت هادئ لكن بمنسوب سيال من الجهورية. لما طلبنا لقاء عباس بيضون أحضره، صافحته، وتذكر أنني قدمته في لقاء شعري بالرباط ضمن مهرجانها خالد الذكر .
خرجت بغنيمتين من اللقاء، ظلت روحي فريستهما طوال ما يفصلني عن تاريخهما:
عباس بيضون في مقر العمل واتفاقية شراكة للتعاون بين جريدة الاتحاد الاشتراكي والسفير..
لما صافحت عباس بيضون عند تقديمه في مهرجان الشعر، قلت للعموم سأحتفظ بحرارة المصافحة، ولن أصافح غيرك حتى أحمل آثارها إلى حبيبتي. وبالرغم من كل مغريات الشاعرة الجميلة مرام المصري كي أخلف وعدي بمصافحتها، التزمت بما قلت..
كانت نفسي …نديمتي في القصة.
دخلنا المكتب المديري في السفير وجاء عباس بيضون وسرعان ما طلب الانسحاب، لأجل مواصلة عمله (احتراما لزملائي في القسم الثقافي، قال).
كبر الرجل في عيني وسيزيد عندما قمنا بزيارة للمقر رفقة مديره ووجدناه جالسا في مكتبه المتواضع، يحرر إصدارات كتب للأطفال ولغيره من الكتاب، ويقوم بتصحيح المقالات الواردة على قسمه الثقافي.
قلت لنفسي ولحسن طارق ربما: هذا الشاعر الذي كان أسيرا عند إسرائيل لمرتين في 1968و1982 عند اجتياح لبنان، يجلس متواضعا كي «يحلل رزقه».
لماذا عندنا يعتبرون الكسل امتيازا طبقيا يخص البرجوازية الوسطى يا عزيزي؟
تقول سيرته المقتضبة إن «عباس بيضون ولد في صور، جنوب لبنان، عام 1945. درس الأدب العربي ونال الماجستير من جامعة السوربون. مناضل سياسي سُجن في لبنان 1968 و1982 عقب الاحتلال الإسرائيلي للبنان ثم اعتزل العمل السياسي. عمل في التعليم وفي الصحافة حيث كان مسؤولا عن القسم الثقافي في جريدة السفير. وهو شاعر أصدر 18 مجموعة شعرية، ترجمت مختارات منها إلى الإنجليزية والألمانية والفرنسية وغيرها من اللغات. باشر منذ أوائل التسعينيات كتابة السرد والرواية، ومن رواياته «خريف البراءة» التي نالت جائزة الشيخ زايد للآداب عام(2015) و»تحليل الدم» (2002) التي ترجمت إلى الإنجليزية في أمريكا وفازت النسخة الإنجليزية بجائزة جامعة أركنزس للترجمة الأدبية».
هذا الرجل أعطاني في دقائق درس الأنفة المبنية على العمل …
والمدير طلال سلمان، المبدع المتعدد الأقواس، والسياسي المبدئي، العميق، والذي يعيش قوميته بلا ضجيج ولا صخب ولا شعارات، الواقعي مثل رحالة فينيقي يعرف تقلبات الموج، اللبق والدمث الأخلاق..شرفني بحديثه وبشراكة مع الجريدة وقعناها معا..
هذا الرجل الفخم، كان يحمل تاريخ لبنان في جسده، حيث نجى من محاولة اغتيال أمام منزله في منطقة الحمراء في بيروت، في 14 يوليوز 1984، وأصيب بجروح في أنحاء متعددة من جسده.
أنا لا أعرف لمن تصل هذه المرثيّة ولا متى لأنني كتبتها بلا عنوان، وكتبتها بدون ظرف رسالة مثل طرد ملغوم يكشف عن المرسل إليه بعد الانفجار…
ولعل أفضل ما أختم به هذه المرثية ( وهي ليست للحزن بالضرورة) هو ما كتبه عباس بيضون نفسه في نعي رفيقه « لم يخفَ عن سلمان أنني كنت مخالفاً لسياسة الجريدة. في كلّ شيء. سمح لي أن أجهر بذلك وأن أكتب فيه مقالات في صفحتي الثقافية تم هذا على مدى سنوات طوال ….مقالاتي في هذه الصفحة لقيت قراء ولا بد أن اختلافها كان ظاهراً. لا أذكر أنه فاتحني بذلك أو أنكره علي. كان في ذلك فريداً ولا أظن أنه كان من السهل أن تحوي جريدة لبنانية معارضاً لها في داخلها. لم يكن طلال هكذا مع الجميع. أسمع الآن أشخاصاً يشكون من أنه لم يتسامح معهم في ذلك وصرف بعضهم لأجله. هكذا يمكنني القول إن صمته عني وتسامحه معي كان هدية خاصة لي يستحق من أجلها شكري الآن وتعزيتي لأسرته وأبنائه وأصدقائه الكثيرين. بل يمكنني أنا الذي صحبته كل هذا الوقت أن أكون بين أهل العزاء…».
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 31/08/2023