الرافد الصوفي الأندلسي المغربي : جسر الله!

عبد الحميد جماهري

لم تقف الغرابة عن البحث في‮ ‬تواشج الهيب الهوب مع الطرب الأندلسي‮ ‬وزجله،‮ ‬بل تعدته إلى‮ ‬الأطروحة المركزية في‮ ‬كتاب الأمريكي‮ ‬ايريك كادروود‮،‮‬ “‬الأندلس في‮ ‬اللقاء الاستعماري‮ ‬الإسباني‮ ‬المغربي”، وهي أطروحة جديدة غاية الجدة،‮ ‬ولعل ذلك ما جعل مسير الجلسة الثانية مصطفى الجواهري‮ ‬وقبله رئيس الجمعية‮، ‬يدعوان الحضور إلى‮ ‬التأمل والمناقشة الجريئة للكتاب،‮ ‬ذلك لأنه‮ ‬يقوم على وجهة نظر قوية ومتميزة مفادها ‮‬أن ” الهوية الأندلسية للمغرب ليست إرثا قادما من الماضي،‮ ‬من تاريخ الأندلس العربي‮ ‬الإسلامي‮ ‬في‮ ‬القرون الوسطى بل هي‮ ‬اختراع حديث نتج عن التفاعل بين إسبانيا والمغرب خلال القرنيين الصعبين‮ ‬19‮ ‬و20‮ .. ‬ “.
هو‮ ‬يتقفي عبر معالجة العديد من النصوص التي‮ ‬لم تحظ بالقراءة العميقة‮، ‬كيفية تحولِ سردية جاءت لخدمة الاستعمار الإسباني‮ ‬أو لمواجهته إلى‮ ‬حجر من أحجار الزاوية في‮ ‬الهوية الوطنية ورافدا فيها؟
كانت محطة التواشج الصوفي‮ ‬بين ضفتي‮ ‬المتوسط،‮ ‬ لحظة تراشح osmose أندلسي‮، مغربي ‬عنَى في لحظات عديدة استمرار الأندلس في‮ ‬الروح،‮ ‬بعيدا عن مجازات الشعر وبناء الدول وتطعيم المخيلة‮..‬
وإذا كان المغرب لم ينتظر الطريق إلى لله أن تبدأ من الأندلس، فقد كان لكل بلد تجربته، والتي تلاقت في قلب التاريخ الروحي المشترك كما أراد المتدخل في الموضوع.
ويحب محمد التهامي‮ ‬الحراق،‮ ‬المتدخل الثاني‮ ‬في‮ ‬الجلسة الأولى‮ ‬،‮ ‬التمييز بين التراث والميراث،‮ ‬على‮ ‬قاعدة أن الأول ‬قد‮ ‬يوحي‮ ‬بالعلاقة في ماضويتها الصرفة، والعجز عن التفاعل اللحظي،‮ ‬في‮ ‬حين‮ ‬يحيل الثاني‮ ‬على استمراره في‮ ‬الوجود والحياة الفردية والعامة للناس والمجتمعات‮، ‬كما أنه ‬يوحي‮ ‬لنا بأن نطلب الرافد الأندلسي‮ ‬في‮ ‬الحوار بينه وبين ‬الهوية الوطنية‮‬،‮ ‬حوار لا‮ ‬ينقطع، لا على أساس جوار ثابت‮ .
ويدعونا، كذلك،‮ إلى ‬استطلاع الأندلس كأفق قادم‮ ‬ لا كحنين عائد،‮ ‬أو كفردوس منشود لا فردوس مفقود‮.. ‬ أي الأندلس بما هي‮ ‬محاولة مستمرة في‮ ‬التاريخ‮ ‬والحضارة”حاملة لأفق قيمي‮ ‬إنساني”..‬قد‮ ‬يفتح الطريق للمسلمين كي يصيروا …مواطنين عالميين‮!‬
‮ ‬وقد عدد المتحدث مضان ومظاهر القرابة الصوفية والتأثر المتبادل بين الضفتين، في ثلاث مراحل،‮ ‬مرحلة كان سما وعلا فيها “الزهاد والعباد”،‮ ولعلها في ذلك لحظة مشتركة مع كل بلاد المسلمين، حيث بدأ المؤسسون‮ ‬لها في ‮الأندلس بما كان من الطبيعي‮ ‬أن تبدأ به أي‮ ‬حياة زهدية بسيطة للعديد من البناة الروحيين “الذين رغبوا عن الدنيا واتجهوا إلى رياضات دينية قائمة على قواعد زهدية..”، ومنهم كما نخمن بعض التابعين الذين دخلوا الأندلس، وكان فيهم للناس قدوة صالحة،‮ ‬فمن أمثلة هذا ما يروى عن التابعي بن عبد الله الصنعاني‮ ‬المتوفى‮ ‬في‮ ‬أوائل القرن الثاني وغيره من رجال المذهب في القرن الثالث، والذين وصلنا بعض صدى حياتهم المتدينة، كما هو حال عيسى بن دينار الفقيه الطليطلي ناشر مذهب مالك في‮ ‬الأندلس..
ويحدثنا محمد التهامي الحراق، عن خبرته في الموضوع، هو الذي راكم التجربة الحية مع التحصيل العلمي باعتباره، كما قدمه مسير الجلسة، المسؤول الثقافي والفني عن مؤسسة الذاكرين للأبحاث الصوفية وموسيقى السماع، حاصل على دكتوراه في الآداب من جامعة محمد الخامس بالرباط، ونائب رئيس مؤسسة مولاي عبد الله الشريف للدراسات والأبحاث ـ إضافة إلى اجتهاده الإعلامي المتميز في المجال ذاته من خلال العديد من البرامج التلفزية والإذاعية حول التصوف، منها:”عباد الرحمن”، و”ذكر ومذاكرة”، و”مرحبا بالمصطفى”. والحراق، الذي كشف لنا بعضا من حجب التلازم الصوفي الأندلسي، سار بحياته وسط الصوفيين، كتابة وسماعا وتواصلا، أضاف إلى تحقيق الصوفية في الأندلس مرحلة ثانية كان لعلم الكلام والفلسفة فيها سبيل إلى التصوف والترقي‮ ‬إلى‮ ‬مدارجه العلى، وازدانت فيه الأندلس بنفحته الحِكَمية‮ ‬،‮ ‬ثم مرحلة ثالثة سماها المتحدث بالتوجه العرفاني‮.. ‬وفي‮ ‬الضفة الجنوبية، كان المغرب يغذي‮ ‬التصوف السلوكي‮ ‬السني،‮ ‬ولعله بدا كما لو أن هناك تباعدا بين التصوِّفين،‮ و‬بين العقلي‮ العرفاني‮ و‬بين السلوكي‮ في تعميم الإشراق‮ ومكابدته .. إلى أن توحدا، بحلول الواحد في الآخر، حسب ما‮ ‬تجسد‮ ‬من خلال سيرة ابن رشد وسيرة ابن عربي‮..‬التواشج العلائقي‮ ‬الروحي‮..‬
وآثر المتحدث في تاريخ الروحية الصوفية أن يذهب إلى ما مثله التلاقح الروحاني في التجربة العلمية كما في التجربة الإيمانية. وأصاب في القول بأن الخلاصة كانت تركيبا جمع بين الطرفين، الروح والعقل، ومما أسعف على تفسير ما استعصى من بعض القرآن المتشابهة آياته، كما أسعف الضفتين بأعلام من مستوى رفيع في البحثين معا، الفعلي والروحي، وقد تعددت شواهد على ذلك في سير الناس (مثال ذلك ما تحدث به السيد الحراق عن مقاهي حديثة كانت تتضمن نسخا أصلية من الفتوحات المكية، وما اشتهر به فن الملحون من توله وتولع صوفي، وروح العرفان الأكبر، نسبة إلى الشيخ الأكبر ابن عربي..) وبالحديث عن محيي الدين بن عربي يحضرنا تاريخه في بلاد المغرب، الذي تجول في عموم ترابه المغربي، حتى قادته رحلته إلى منطقة جماعة كيسر النائية، على الطريق الجهوية 308 انطلاقا من مدينة سطات في اتجاه البروج، وبعد قطع 30 كيلومترا، وبالمناسبة كانت له مواسم هناك، سيكون من الفضل الروحاني أن تعود كما قدر لها أن تكون.. وكان له فيها مقام “القربة”، ولعله في ترتيب الولاء الصوفي تقع الصدّيقية والنبوّة كأحد أعلى مراكز التصوف واصفا المكان بـ”المنازل المعتبرة” كما حصل في مدينة فاس على “مقام الأنوار”.. وكان قد سبق للتهامي الحراق أن حاضر فيها في يوليوز من 2011 حول الموضوع ذاته.

للشيخ الأكبر قول في هذه المدينة البسيطة، يعكس وصول التصوف الأندلسي إلى عمق المغرب البدوي، كما ألمح إلى ذلك مصطفى الجوهري في ما سبق ذكره، ومن قوله ما حصل له بابحيسل (كيسر) في شهر محرّم (597هـ)، كما يذكر ذلك في الباب الحادي والستين ومئة من كتابه “الفتوحات المكية”، قال: “هذا المقام دخلته في شهر محرّم سنة سبع وتسعين وخمسمئة وأنا مسافر بمنزل ابحيسل ببلاد المغرب فتهت به فرحاً ولم أجد فيه أحداً، فاستوحشت من الوحدة وتذكرت دخول أبي يزيد بالذلة والافتقار فلم يجد في ذلك المنزل من أحد وذلك المنزل هو موطني فلم استوحش فيه؛ لأن الحنين إلى الأوطان ذاتي لكل موجود وأن الوحشة مع الغربة. ولما دخلت هذا المقام وانفردت به وعلمت أنه إن ظهر عليّ فيه أحد أنكرني. فبقيت أتتبع زواياه ومخادعه ولا أدرى ما اسمه مع تحققي به وما خص الله به من أتاه إياه. ورأيت أوامر الحق تترى عليّ وسفراءه تنزل إليَّ تبتغى مؤانستي وتطلب مجالستي، فرحلت وأنا على تلك الحال من الاستيحاش بالانفراد والأنس”.
ولقد أحالت المداخلة القيمة والثرية للتهامي الحراق على أعلام غير العلم الأكبر من أمثال ابن عجيبة ومحمد بن عبد الله بن مسَّرة الجبلي‮ ‬المصمودي‮ (‬319ه‮)،‬ أبى الحسن الشاذلي الغماري‮ وغيرهم من الأقطاب…
وهو بستان فيه من الفيض الكثير، وما ظل قائما في وارف الروحانية المغربية.. وتغذى منه البعد الموسيقى، من خلال مداخلة سفيان اكديرة، وهو شاب يهتم بهذا التراث الموسيقي باعتباره يتجاوز التاريخ ، بواسطة الثقافة التي تجمع تطلعات الإنسان مهما اختلفت، مستحضرا الضرورة الإنسانية والحضارية في الحفاظ على هذه الوظيفة السامية التي تتولاها الموسيقى… وإذا سبقت الأندلس الصوفية، في التاريخ، فقد التحق أهلها بها لتتجسد فيهم .. بواسطة الموسيقى طبعا وغيرها من فنون الوجود وفنون الروح، بعد الخروج الكبير .
وكانت لنا أندلس أخرى، أوسع وأكثر انتشارا، اقتفيناها من خلال الترجمة ودورها في المشترك الإنساني، وقد تقدمت به، في نهاية الجلسة الأولى، نادية العشيري، الحائزة على جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي الشهيرة، في دورتها الأخيرة، باحتلالها المركز الأول في فئة الترجمة من اللغة الإسبانية إلى اللغة العربية، عن ترجمة مشتركة مع أستاذ الأدب الإسباني بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس، محمد برادة، لكتاب “الأدب السري لمسلمي إسبانيا الأواخر”، لمؤلفته الباحثة والمؤرخة في جامعة بورتو ريكو بأمريكا اللاتينية لوثي لوبيث بارالت.
وقالت المتحدثة ما يفيدنا في كون الأندلس صارت جزءا من المعيش الكوني، كما حصل بوصوله إلى أمريكا الجنوبية، من خلال الكتاب نفسه الذي ترجمته ومن خلال الآثار الحية لهذا المعيش. وفي الكتاب نبوءات، ولعلها كانت في تقدير المتحدثة”وجها من وجوه التفاوض مع القدر”، فيها تفسير لما سبق وأحيانا تطلع لما سيلحق. ولعل ما يثير الانتباه حسب الأستاذة نادية هو وجود “شغف إسباني حاليا لدى الأسر للبحث عن أصولها المغربية”، أي وجود رافد يذهب من الجنوب نحو الشمال.. وقدمت كذلك بعضا من صور التجاوز الحضاري الذي بنت عليه الأندلس مساهماتها في تطور البشرية، من قبيل عدم تحقير النساء غير المسلمات، حتى أن السلاطين تزوجوا من أرامل النصارى كما حدث لابن موسى مع أرملة رودريغيز … وما زالت الكثير من الآثار التي تقاسمتها المكونات المتعددة للأندلسيين ( المولَّدين) تعيش معنا، إما رفقة التاريخ وكتبه وإما في الحياة العامة، طوال القرون كلها.
لقد رأينا الرافد الأندلسي يتسع تارة حتى يتحول إلى طريق إلى الله في طريق التصوف الذي ارتمى جسرا إلاهيا بين الضفتين ، ويشِفُّ أحيانا أخرى حتى يصير موسيقى ونغما، وأزجالا شعرية يمتد تأثيرها إلى الموسيقى العصرية. ورأينا الرافد الأندلسي يشكل المعيش اليومي، متوهجا لثمانية قرون أو تزيد.
في الواقع كان لهذا الحضور، مما كنا نسعد بسماعه في بناء شأن الدولة، لا في الحكم وتدبيره ( وقد اجترح أهل الأندلس شعارا لهم : السلطان من اعتزل السلطان ) بل في صناعة هيبة الدولة في علاقة ‮ ‬الأندلس والسلطة السياسية في المغرب ‮: ‬كيف علمت الأندلس ملوك المغرب البروتوكول وفن الوجود في‮ ‬القصور‮، وقد بينت الآثار والبصمات، والتي صارت من المميزات المغربية في الدولة من خلال ما أورده لنا كتاب”العز والصولة في معالم نظم الدولة”، لصاحبه مولاي عبد الرحمان بن زيدان مؤرخ الدولة العلوية.. وفي ذلك أبدع الكاتب والباحث المعاصر محمد الطوزيفي رسم ما كان لأهل تطوان وفاس من تأثير في توسيع مدارك الدولة في فنون الطبخ والاستقبال، وفي فنون “الإيتيكيت”، كما كان السلاطين يدفعون إليهم حريمهم ليتعلمن من عاملات دَرجْنَ على هذه الدرجة الحضارية التي تشكل طابعا مولويا للدولة.( انظر محمد الطوزي في كتابه مخيال الدولة في العصر النيوليبرالي، حياكة الزمن السياسي في المغرب)، ولا يفوت الباحث الإشارة إلى أن هندسة ـ فن الضيافة والاستقبال وطقوسها مشتركٌ بين مجموع المجتمع باعتبار المكانة المركزية التي تحتلها الضيافة وباعتبارها فنا من فنون الحكم بإعطاء النموذج وترسيخ التقاليد فيه والاجتهاد والإبداع في فنون تقديمه وإبرازه وعرضه، ولا شك أن هاته الفنون التي جاءت بها الأندلس أو جاءت بالأندلس إلى سرايا السلاطين، لا تخلو من ملمح من ملامح سمو السلطة ومن يمثلها، وفي العمل على تقنين تمثلها لدى الآخرين، في الداخل وفي الخارج… وفي ذلك تراث أدبي ومراسلات لعل أهمها رسائل السلطان محمد بن عبد الرحمان إلى واليه على تطوان في 1800 لكي يضع نساء من القصر عند العائلات البورجوازية في تطوان لتعلم فنون الطبخ، ونفس الشيء مما ذكره المؤرخ محمد داوود، عن مراسلات مولاي عبد العزيز إلى واليه أو عامله على فاس مع تحديد الوصفات والأكلات التي يود السلطان أن تتعلمها نساء القصر وإرسال بستانيين لتعلم فن البستنة الأندلسية، …. ومن هنا قد يكون من المفيد كذلك أن تنال فنون الاستقبال الأندلسي حظها من الدراسة في ما يتعلق بدورها في ممارسة السلطة. وهو لوحده مبحث قويم وعظيم لفهم جزء كبير من طقوس الحكم في المغرب.

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 03/07/2024

التعليقات مغلقة.