الزريبة الديموقراطية..
عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
هناك قاموس بسيط لم تعد الديموقراطية تستقيم بدونه، هو قاموس «كليلة ودمنة». وقانون أكثر بساطة منه، هو قانون الغابة: وعليه صار المغرب ورشة لاختبار الزريبة الديموقراطية في أبهى حللها.
أليس السياسي حيوانا سياسيا بطبعه؟
وقد سقطت السماء على الشعب المغربي وعلى شهدائه وقضت أجيال كثيرة من بنيه وبناته قرونا مديدة في السجون والمعتقلات السرية كي يصبح رئيس حكومة ذئبا عجوزا، ورئيس البرلمان حمارا صغيرا….
هذا آخر فصل في كتاب بيدبا الفيلسوف والذي ترجمه عبد لله بن المقفع…
فالقاموس المتبادل بين عبد الإله بنكيران، وهو في حياة أخرى رئيس حكومة سابق والطالبي العلمي، وهو في حياة الناس الحالية رئيس البرلمان المغربي في شقه النيابي، والرجل الثالث في هرم الدولة قاموس لا أدب فيه!
وما من شك أن هذه المناوشات الجديدة، التي يتابعها المغاربة في الوقت الثالث منذ أن أصبحت السياسة بروفة تكوينية في رعاية الحيوانات، أثارت انتباه السلك الديبلوماسي.
ولا تستغرب أيها الشعب الكريم إذا بلغك أن السفير الهندي طلب ترجمة فورية للخطب السياسية للرجلين وأمثالهما، لكي يعرضها على حكومة بلاده كامتداد لكتاب (پنچاتنترا)الأصل الهندي لكليلة ودمنة . كما أن السفير الهولندي، في ما أصبح مهمة ديبلوماسية له، لن يفاجأ إذا سارع إلى إخبار حكومته بالانتقال السياسي في القاموس المغربي، الذي يجب استحضاره في العلاقات بين البلدين، أما السفير السويدي، فهو قد سارع إلى إرسال تلغراف عاجل يطلب من حكومته تعليق أي زيارات للسياسيين والمسؤولين،المغاربة خوفا على الناشئة من ذئاب في هيئة رؤساء حكومات وحمير في هيئة برلمانية متقدمة..
وقد يذيل تلغرافه، حسب الأعراف المتطابقة، خوفا على النشء من أن يصاب بلوثة أخلاقية تخلط بين الآدميين وبين السياسيين، بعد أن صاروا قطيعا في غابة ديموقراطية واسعة الأطراف..
ويبدو أن وزير التربية والتعليم والرياضة، عليه أن يفكر بجدية في توسيع نطاق مهامه، لكي تشمل لسان الطير والوحيش والهوام والزواحف..
ومن المنطقي أن يفكر آباء وأولياء التلاميذ في منع الحديث عن السياسة والسياسيين ومؤسسات الديموقراطية في دروس التربية الوطنية والتربية على المواطنة والاجتماعيات بعد أن تبين أن كبار رجال السياسة أصبحوا يفضلون قواميس الحيوانات.
وطبعا،فالقضية جدية ما دامت تتعلق برجل حزبه على رأس الانتخابات والمؤسسات يقارع رجلا ثانيا كان حزبه هو الأول..
ولا أحد فيهما حرك السلطة والقانون من أجل إثبات الفقر الديموقراطي والأخلاقي للآخر أمام القضاء..
فالكل يكيل السباب للآخر، في تمرين لغوي يليق بالشارع العام في الواحدة والنصف ليلا..
صديقي الأديب الكبير الذي أوحى لي بكليلة ودمنة لم يفته أن يشير إلى أن هذه الصيغة غير المنقحة والمهترئة ينقصها خيال كبير، ولا وصفة إبداعية فيها.
يا إلهى حتى في الأوصاف الحيوانية لم ينجح السياسيون في إيجاد الصيغة المثلى أو يثبتون قدرتهم على خلق الإبداع..!
كليلة ودمنة هما بنات آوى في الكتاب، ونحن عندنا كليل واحد ودمنة واحدة..
وشخصيا أرى أن هذا الإبداع يحل عقدة طالما استعصت على المتابعين والمناضلين والمفكرين والباحثين، هو النفور السياسي، لا أحد سيلوم المغاربة إن هم أنفوا وعزفوا عن الدخول إلى الإسطبل الديموقراطي الواسع.. بعد أن كان خيرة شبابه وممثليه قد تلاسنوا وتنابزوا بالألقاب..
إنها الحكاية الديموقراطية التي تَرِد على ألسنة الحيوانات !
ولكم كان الملك الراحل الحسن الثاني رؤوفا بالبرلمان عندما سماه السيرك. وقتها كان البرلمان برلمانا وجزء من نخبته نخبة..
أما الآن فقد أصبحنا نرى رئيسه ينعت بالدواب، وكانت الحكومة حكومة وقد بدأنا نرى رئيسها السابق ينعت بالوحيش..!
لقد تذكرت كتابا لطيفا، «الحيوانات التي تحكمنا »..
وأمامنا فصول أخرى أكثر تشويقا
مازلنا في الفصلين الأولين من كليلة ودمنة
فصل الحمامة المطوقة
وباب ابن آوى أوالشغبر الناسك ..
في انتظار باب الذئب والحمامة والشعب الحزين.. !..
القاموس هو عند اللسانيين وأهل المنطق والفيلولوجيا، تفريغ الحكاية للقصة الإطارية …
والقصة الإطارية هنا هي نزوع النخبة نحو القاع، نحو الانحطاط..
وعوض أن نتعلم نحن الشعب أن القانون والسياسة يخدمان القصاص العادل، أصبح من يملك السلطة والموقع القانوني يتنازل عنهما لفائدة قاموس بيدبا الفيلسوف، وعوض شغل مساحة المؤسسات يميل السياسيون، وهم هنا من كبار الساسة في البلد، نحو الصيغة القدحية للقاموس السياسي..
في كل مناسبة أو تجمع نكتشف بغير قليل من الدعابة أن هناك ذئبا كان يحكمنا وأن هناك حمارا صغير ما زال يحكم ديموقراطيتنا..
ونتذكر بغير قليل من التفكه ذلك الكتاب الشيق الكاريكاتوري، الحيوانات التي تحكمنا، ونتذكر بغير قليل من الفكاهة أننا لحد الساعة بلا أسد ولا ثعلب ولا هدهد، فقط بعض الفيلة والحمير والذئاب والدواب الأخرى… وقد يكون هناك ضباع لم تتعرف على نفسها بعد الى حين يغضب منها خصم سياسي أو حيوانات الخرتيت أو البوم والغربان التي تنتظر من يكتشفها، لكن لحد الساعة ما زالت نظرية التطور السياسي عندنا تقف عند ذئب وحمار صغير، لا ندرى إن كان حْميَّر…… جدة أو حمارا يحمل أسفارا..
وقد يأتي علينا حين من الدهر سندعو لله أن تكون هذه الفئة السياسية حيوانية حقا، تتمتع بالكود الشرفي الذي يحكم الحيوانات حتى ندرك بالفعل كيف تفكر عندما تتنابز بهذه الألقاب على مرأى من الأطفال والشباب الذين يرونها نموذجا للنجاح السياسي..
سيصعب علي من الآن فصاعدا أن أقرأ «سيرة حمار» لحسن أوريد بنفس الحرية في الخيال وترتيب المقاطع المشهدية ، وكما سيصعب أن نقرأ «ذئب البراري» لهرمان هيسة بنفس الرحابة التخيلية والحس الأدبي…..
وفي الختام، يشاء المثل الفرنسي أن يقفز المرء من الديك إلى الحمار، عندما يقفز من موضوع إلى آخر لا رابط بينهما، وفي المغرب تقفز السياسة كاملة من الحمار إلى الذئب، عندما يكون المشهد كله لائقا… بالنعامة التي لا نظلمها عندما ننعتها بأنها تضع رأسها في الرمال بل فقط لا نوفيها حقها عندما لا نعطيها اسما سياسيا !
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 17/05/2022