الزلزال لم يدمر الجدران وحدها بل نظاما اجتماعيا وبيئيا كاملا!
عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
أعاد الزلزال وإعادة الإعمار، الحديث عن البناء المغربي المضاد للزلزال، ولعل كثيرين اكتشفوا، كما ورد في دراسة نشرها فريق عمل المجلة الأوروبية لتحليل المجتمعات السياسية، تحت إشراف الباحث محمد الطوزي، أن المغرب يتوفر على مرسوم خاص بالموضوع، سبق أن صدر بالجريدة الرسمية، في 28 ماي 2013، فيه تحديد لضوابط هذا البناء، للمحافظة على الهوية العمرانية المحلية، وعلى الأرواح والممتلكات.
وفي الدليل – المرسوم تعريف بالضوابط العمرانية والهندسية في البناء المطلوب، ونقرأ بأن هذا النوع من البناء لم يتجاوز أبدا مستوى التجريبي، والوقوف» عند البنايات الفاخرة للأثرياء القادمين إلى مراكش أو لبعض الفنانين»، وقد وردت أمثلة على ذلك من قبيل « بناء بيت الطين» للفنان فريد بلكاهية، وبعض المؤسسات العمومية من قبيل المكتب الشريف للفوسفاط، من خلال مشروع الحي الجامعي لجامعة محمد السادس في (2013 -2020)، والتي قال عنها فريق البحث إنها كانت ثمرة تعاون بين ريكاردو بوفيه وإيلي مويال، الأول مهندس معماري إسباني له شهرة عالمية، من آثاره الهندسية «عمارتا التوين سانتر « والمدينة الخضراء وجامعة محمد السادس بابن جرير، وهو الذي كان يرى بأن الهندسة المعمارية أو العمران هو انتصار الإنسان على العبث واللامعقول! كما لو كان يتنبأ بما سيدور من نقاش مغربي…
والثاني إيلي مويال المغربي، وأحد المدافعين عن البلاد بالمواد الترابية، واشتهر في الوسط الهندسي ببناء فيلات لشخصيات وباحثين ترك فيها الحرية شاسعة لخياله في البناء، الذي أسس وكالته الخاصة في المدينة الحمراء، ومن هناك بسط لنفسه الأرض ليبدأ ما يقارب 200 مشروع، ونال جوائز عديدة ذات قيمة دولية كبيرة منها جائزة «الأغا خان» ، و»تيرا اوارد» وغيرهما.
ولقد كان من الذين نوهوا إلى خطورة الحلول الجاهزة «القادمة من الساحل أو من السهول» ولا تراعي الوضع الخاص للجبال.
والواقع أن هذا المجهود والقوانين التي أطرها مرسوم ماي 2023، لم ترتق أبدا إلى مستوى المعايير المضبوطة والمقننة والإجبارية داخل دفاتر التحملات.
لا يتردد أصحاب الدراسة في القول بأن ذلك كان بفعل»ضغوطات لوبي أصحاب الإسمنت «!!!(حتى هنا يا رب)!
ومن المفيد هنا أن لا نستغرب! وأن نسأل، ما الذي جعل الطرف الشريك، لا سيما من قبل المهندسين والمعماريين والسلطات الترابية، (أليس البناء البديل هو بناء من ….تراب)، يتفق مع هذا المسعى، ولا يتخذ موقفا حول طريقة تنفيذ الخطة الواردة في بلاغ الديوان الملكي، والتقنيات الواجب استعمالها، ومكانة الخبرة المحلية، وكل ما ورد في مرسوم ماي 2013، والذي شدد على البناء الطيني الذي ترك لنا “عبر العصور، تقنيات وحلولا ماهرة بهدف تثمين المواد المحلية، وخاصة مادة الطين المستعملة في البناء”، وأنه يمثل “تراثا سوسيو ثقافيا لأجيال عديدة، وشاهدا على أصالة تقاليدنا المعمارية والثقافية”؛ وبالتالي “من الضروري تثمين فعالية البناء بالطين حتى يظل، من بين حلول أخرى، الحل الاقتصادي والإيكولوجي المعتمد للبناء في الوسط القروي”، وشدد قبل هذا وذاك، على ما سبق قوله، على إجبارية «تأطير البناء بالطين بمعايير ودلائل تقنية لتطوير قطاع البناء في الوسط القروي وكذا في المجال الحضري»؟؟؟
من المجدي كذلك أن نقف عند الخلاصات التي وصل إليها الباحثون المتطوعون والعمال الفكريون حول الزلزال من خلال المعاينة اللصيقة بمجريات الواقع، وهي خلاصة تستحق التنويه بشجاعتها وهي تتحدث عن كون»العمل بما ورد في بلاغات الديوان الملكي، أو خطاب الملك في شهر شتنبر، أو التذكير المستمر بالخطاب الشهير للحسن الثاني الذي أصبح رمزا لليوم الوطني للمهندس (صادف هذه السنة 14 يناير 2024 مرور ثلاثة أشهر على الزلزال)، لم يكن لها سوى تأثير قليل على السياسات العمومية المنشغلة بـ» مستوجبات التسليم» السريع وتدبير ضغوطات المقاولين في البناء الذين رأوا في هذا الورش الضخم فرصة للربح السريع»!
الخلاصة الثانية التي لا تقل دقة وخطورة هي المتعلقة بالعلاقة بين السلطات والناس، وكل ما له علاقة بالاستشارات واستعمال مواد البناء المحلية والتقنيات التراثية التي تتطلب الوقت واللجوء إلى الغير مما يجبر السلطات على تفويض بعض من اختصاصاتها في البناء في تنظيم الدواوير، ولعل البعض منها وجد المناسبة، حسب الدراسة، في «نزع» السلطة من المواطنين بخصوص قرار الاستقرار ومكانه والاختيارات الفنية والجمالية التي ترافقه!
النقطة الثالثة التي تستوجب أيضا النظر فيها بعمق، وهي حصر إعادة البناء في .. المنازل!
هناك شبه اتفاق بين الفاعلين العموميين والخواص على الانشغال الحصري بإعادة بناء الدور، والحال أن الزلزال هز وزلزل ودمر التوازنات البيئية والفلاحية والمقومات الفلاحية والرعوية حيث ضاعت شبكات الري التي تطلب قيامها ملايين السنين والأجيال، وضاع جزء من القطيع، ومن مخازن الحبوب ومن المنصات الفلاحية… إلخ.
نحن أمام رهان شامل كانت البلاغات الواردة عن الديوان الملكي كلها تشدد عليه، رهان يخص تأهيل منظومتنا الهندسية وعلاقاتنا المؤسساتية وثقافتنا السياسية ونظرتنا إلى عالم المغرب الجبلي، وثقافتنا السياسية، في علاقة المركز والمحيط، وتبرير التوترات بين القطاعات (الداخلية والسكنى مثلا)، والتوترات بين الوطني والمحلي.. وهو امتحان عميق لمدى معرفتنا بالمغرب العميق، مغرب الهشاشة والخصاص! وبعض هاته القضايا، يتوافق الإعلاميون والباحثون بأن الساكنة «عاشوا بعضها بشعور مأساوي يعادل فقدانهم لأقربائهم»!
من حسن الدروس التي يعطيها الزلزال أنه يشعرنا بأن الميت قد يخرج منه الحي: المياه التي أصبحت غورا، سرعان ما تفجرت من عيون حركها الزلزال، والأنهار بعضها عاد إلى مجراه واستعاد ذاكرته، والساكنة لم تفقد قدرتها على المطالبة والتذكير بأنهم هنا» لا ليسكنوا فقط، بل أيضا ليحيوا ويستمروا في العيش»!
ختاما: لقد قدم ملك البلاد في الحقيقة دليلا عمليا، روحيا وثقافيا وماديا ومعماريا، لإعادة إعمار، ثقافية وإنسانية بنيوية هائلة، هي التي يمكنها أن تؤطر هاته الطموحات العميقة في «الارتقاء» بالتراب الوطني في الأطلس!
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 07/09/2024