الشرطي الذي دخل التاريخ بحذاء .. الطفولة!
عبد الحميد جماهري
سرت الصورة في شبكات التواصل سريان العافية في جسد طري: شرطي مرور، ينحني بحنو على حذاء تلميذة من حملة القرآن الكريم، في الشارع العام، ويعيد علينا مشهد عقد ربطة الحذاء، بحركة أبوية أو أخوية، غالبا ما تكون في حضن البيت، صورة سرت حرارتها في كافة شبكات التواصل وصفقت لها العواطف الشعبية…
لعل الصورة مكتفية بذاتها، هي بلاغة ذاتها، ولا تحتاج سوى النظر.
لكن إغراءً ما يدفعنا لأن نسأل لماذا حظيت بمثل هذه الموجة العميقة من الاحتفاء؟
لماذا يكون لصورة مثل هاته كل هاته القوة؟
تفسر الصورة ، في الرمزيات، كما يفسر الحلم.
نتملَّاها بتفاعل عاطفي كما لو أننا رأيناها في حلم. ونبحث فيها عن رمزيات علاقة عاطفية وعائلية وأخوية، ليس من المفروض أن تكون هي العلاقة بين طفلة من المارة.. ورجل الأمن!
ولهذا ربما رأى فيها الذين اعتبروا رمزيتها عميقة ما قد يراه النائم من معاني الارتباط الوطيد، والبحث عنه في تفاصيل عناية طارئة بين المواطنة والخدمة الأمنية..
في الصورة نرى الشرطي ينتج رمزا، لا يدعي بأنه يعي كل حمولاته، أو يفلسفه أو يضع له نظرية، لا ..
هو قام بحركة رمزية ليعبر عن عناية خاصة: للطفلة، للقرآن الذي تحمله في قلبها الطري، للمناسبة، للبذلة التي يريد إعطاءها رمزية أكبر لما تعطيها مهمته نفسها، وهذا ما يهمنا كثيرا.
الشرطي ليس رجل سياسة. لكنه يجد نفسه محاطا بالمخيال العام الذي يرى في كل عملية إنتاج لرمزيات ما، من قَبيل ما فعله هو نفسه، عملية تحيل على وظيفة سياسية بالضرورة، كما قد تتصادى معها، وتكون صدى لها الوظيفة الرمزية التي تصبح ذات معنى في السياسة العمومية!
يشعر الناس، البسطاء منهم قبل المنظرين، والذين يفهمون في الرمزيات بأن كل من يرسل رسائل رمزية، كهذا الفعل العميق والنبيل يشارك في .. الحكم!
لهذا كانت التعليقات تكشف عن فهم سياسي ورمزي وعاطفي مكثف في تلك الصورة البسيطة..
حتى ونحن نستبعد الفلسفة بالمعنى الأكاديمي الكبير، لا بد من الإقرار أن العملية البسيطة ليست بالبساطة التي قد نتوهم:لا يمكن أن يكبر الإنسان إذا لم يمر من امتحان ربطة الحذاء. ولا يمكن أن تستقيم طريقه ومشيته، كإنسان، إذا هو لم يكن قادرا على ذلك..
الشرطي وهو يطوي ركبتيه وهو يثبت مهارته، يقوم في الواقع بعملية تنسيق واسعة بين العين واليدين، ورأسه إلى الأرض. لكي يساعد الفتاة كي تشق طريقها بشكل صحيح!
يمشي هو بدوره في طريق التاريخ … في حذاء طفل آخر، وبخطوات بريئة!
ونحن نعرف، كما قد يذكرنا بذلك علماء التربية: بعد عملية الرضاعة، ليست هناك صورة عن الاهتمام والانشغال الإنساني بالآخر، شيخا كان أو صغيرا، أقوى من صورة عقد ربطة حذاء إنسان في حاجة إلى مساعدة. طفلا كان أو عجوزا، يقول الفيلسوف وولفران ايلينبيرغ
Wolfram Eilenberger.
يمكن أن نذهب بعيدا في المخيال الفلسفي ونقول إن عقد ربطة الحذاء هو عقد من طينة خاصة يربط مابين الأجيال (بين ـ جيلي) وهو رمز يومي عن ترابطنا وارتباطنا المتبادل ببعضنا. وهو في حالتنا هاته، ترابط باتجاه واحد يقوم به رجل أمن..
رجل الأمن يبدو منشغلا، على مهل. غير متعجل، كما لو أنه يخشى فخا ما في المستقبل تسببه العجلة . وعندها تنفك العقدة وتنحل، لأنه عقدها بتسرع وبدون اهتمام ملحوظ.. ولهذا تكون التؤدة تعبيرا عن خشيته من سقوط محتمل للطفلة ومن الألم الذي قد يتسبب فيه هذا السقوط.
والعين المغربية، يبدو أن لها لاشعورا بصريا inconscient optique. راكمت مقاطعه وأجزاءه طوال الزمن القاسي ثم بدأت تحرره الصورة الجديدة عن الأمن…
وهي صورة تطرد صورة أخرى سابقة..كانت تسري في السابق مثل القشعريرة، مثل ملمس الحديد أو مثل برودة القبو.
النظرة التي طبعت علاقتنا بصور الأمن كانت أولا نظرة سياسية… الآن تكاد تكون فنية، عاطفية أو حتى روحية..
ربما هو ذا المعنى للحضور القوي لربط الطفلة بحفظ القرآن في تدوينات العشرات من المعجبين..
إن النظرة نظرتنا نحن إلى أنفسنا.. وتحمل رسائلنا إلينا …
هذه النظرة الجديدة هي التي تصنع الصورة هنا!
ربما في هذا المغرب المنفتح على صور جديدة في عهده الجديد. لن تضاهي هذه الصورةَ سوى صورةُ الأم وهي تتلقى تقبيل ابنها اللاعب في المونديال…
هو ذا مديح مقتضب لرباط الحذاء..
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 22/05/2024