الشعر يزج بي في السجن

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

لا تسنح الفرصة دوما بأن يزج بك الشعر في السجن، ويحثك على إبداء الإعجاب به، طواعية وببساطة كبيرة، وسط السجناء، ثم يهمس لك بكل »أدب« بأن تحكي قصة هذا الإعجاب.
حدث أن دخلتُ، عشية يوم الأربعاء الماضي، سجن بني ملال بمحض إرادتي وربما بفعل ما كانت القصائد تحبكه لي من مواعيد في غيب الكلمات، ومن وراء ديوان..وأيضا بفعل توجه جديد في «حكامة الزنازين»، بجعل المهمة الأدبية جزءًا من ترسانة لعتق الروح المسجونة من جدران العقاب، أو من ضيق الشعور بالذنب لارتكاب صاحبها ما يوجب الحبس.
وبعد أن خطَّطت الصديقة والمبدعة الروائية والشاعرة السينمائية أمينة الصيباري للقاء، تحت مظلة جمعية ثقافات وفنون الجبل، التي تسهر عادة على تنظيم مهرجان تاصميت السينمائي ومواكبه الأدبية، جمعني اللقاء بالسجناء، بحضور السي حسن عناية، مدير المندوبية الجهوية للسجون وإعادة الإدماج ومن رافقه من أطر السجن.
في الطريق إلى السجن، كنت موزعا بين غيم يرمي الرماد على المدينة ومعاطف الجبال، وبين إشراقات خاطفة تطل بها الشمس على حقول الزيتون والبرتقال المصنفة على جنبات الرحلة…
مع أمينة الصيباري إلى السجن، عند المدخل، أمام الباب الأزرق الهائل، وصلنا، وكان الجو صامتا كما يليق بمؤسسةٍ للحجز، الأساس فيها.. العزلة الإجبارية.
باب أول، ثم باب ثان، ثم باب رابع، والحراس وحدهم في اتزان المهمة، أغلبهم شباب يستقبلون الوافد الشعري، أو السردي باحترام، وبمزاحٍ، لا يصل طبعا، إلى الترحيب بنا، هنا في الداخل !
المكان نظيف جدا، والورد، الذي يجاور الجدران، يتوزع بين ساحة وأخرى، يبدو مألوفا.على غير عادته، إذ تكون الورود غريبة في السجن، كما تكون غريبة في المقبرة!
وفي المكتب الاجتماعي، حيث ننتظر لقاء السيد المدير، يتحدث إلينا الحارس بلغة حرة، يكشف لـ «أمينة» بأنه يتابعها على «الفايسبوك» ويحرص على أنشطتها وكتاباتها بابتسامة تدل على تواطؤ طيب مع ما تكتب..وعلى امتنان بأول نشاط حزبي كان بفضلها، وتحلق السجناء حول روايتها «ليالي تاماريت»!
السيد المدير، السي حسن، رجل هادئ بسمرته الوديعة، وبسمته المطمئنة. يتحدث عن معرفته بالقادمين، ويتحدث عن المحيط الجديد للمهام السجنية، وعن التطورات الجذرية، التي تعرفها المؤسسة السجنية والفلسفة الجديدة للحرمان من الحرية، من خلال تجربته هو نفسه..
قبالة الفضاء الذي اختارته الإدارةُ للنزلاء مكتبةً، معملٌ صغير لصناعة الكمامات..العمال فيه نزلاء يحترمون الاحترازات، كما كل من صادفناهم في الطريق. هنا، تصنع الكمامات من ثوب جيد ويتم توزيعها على السجناء في مدن أخرى..
ندخل المكتبة، ونسيت السجن!
حقا كنت أعرف أنني في السجن، وأن الموعد المبرمج منذ مدة، سيجمعني بسجناء وسجينات انتهواـ ين من قراءة الديوان الأخير، «جاؤوا لنقص في السماء» الذي كان مأدبة تلك الأمسية، لكني نسيت أنني في السجن وأن حديثهم وحديثه عن ديوان يدعي صاحبه أنه تجربة في التحديث البلاغي …سيلغي المكان ويدخل الحرية، إليه من جملة شعرية أو من تفكير جريء!
جئت، ولكني لم أكن أعرف بأنني سأكون بحضرة قراء وقارئات من طينة نادرة. أذكياء وذكيات،بلغة ذاتية أو مقتبسة، ندية وعميقة..
لا أحد يعرف بالضبط كيف تحمي الحرية نفسها وتحصن طراوتها في الزنازين وما هي الزاوية التي تختارها: قد تكون الاختباء في جملة شعرية أو في ماء العينين اللتين تعجلان الحلم بين الأسوار بإغفاءة متعمدة، لكني كنت عشيتها متيقنا بأنها كانت ركنا من مكتبة مضاءة ونظيفة، تحمل صور محمد شكري، وعبد لله العروي وخناتة بنونة وياسين عدنان، في ألفة ملغزة بين الأدب والفضاء المغلق…
حضرتني قصة سابقة لأمينة الصيباري مع سجين من السجناء الذي قرأ روايتها قبل مناقشتها، قال الحسين شاكرا لقد منحتني يومين من الحرية، هما اليومان اللذان تطلبتهما قراءتها!
كان الحراس يغذون الفرح بانضباط مهني، مشفوع بانشراح إنساني لا تغفله الحواس:
يسجلون التدخلات ويردون على بعض الملاحظات، ويوفرون للحوار ظروفه الأساسية السلسة..
كل القاموس النقدي، الذي حضر في تلك المكتبة، كان كما في مناقشة أطروحة أو في متابعات ثقافية على صفحة ملحق.من البحث عن التراجيديا إلى البحث عن الرموز وعن اللغة، وعن المعنى الديني في تناصاته وعن الالتباس الذي يحدث لمن يريد المجازفة بالدخول إلى حديقة نص شعري، كانوا يعيدون كتابة النصوص من خلال وعيهم وأسئلتهم وتجربتهم ولغتهم، الحرة، المسترسلة والدقيقة…
أسارع بطواعية ممتنة إلى القول إن اللقاء الحديث حررني كثيرا من أشياء احتفظت بها عن السجون، من زمن عتيق، وحررني من كآبة مفترضة، عند البوابات وداخل الأسوار وفي المحيط الداخلي، ووجدت مكانا حسن الإضاءة، لطيفا، لا يشعر الزائر، على الأقل، بالكآبات المعششة عادة في أماكن الاحتجاز الضيقة، التي تحمل في اسمها وشوما حزينة وأخرى رهيبة.
حررتني تلك الجلسة الشعرية، ثانيا، من الوهم الذي يجعل فهم الأدب موجودا، بالضرورة في مدرجات الكليات وفي أذهان القلة الباردة من مترعيه في الأندية وفي الحدائق.. وعلى صفحات الجرائد.
ومن جميل الصدف، بعد انتهاء اللقاء، أننا التقينا أستاذا جامعيا، وهو أخ وصديق، كان يحرس الطلبة الذين يجتازون الامتحانات، سجناء في طوابق متفاوتة في عمارة العلم والتحصيل الجامعي.. تصنع الصدفة، بدورها، نهايات متتالية، ما أن غادرنا السجن، والتقطنا صورة مع السيد المدير أمام الباب، فتحت الهاتف الذي ظل مغلقا طوال اللقاء، وأول ما طالعني، رسالةُ واتساب من لدن العزيز الحبيب بلكوش وكان فيها…. «تقرير عن وضعية السجون في المغرب»!
يا سلام، لقد عشت، للتو والهنا، تجربة خاصة للغاية كانت غنية ربما عن الكثير من اللغة في توصيف الوضع الجديد للسجون يا… عزيزي الحبيب!

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 19/03/2022