الصحراء في الخطاب والكِتاب، بين الملك والمؤرخ

عبد الحميد جماهري
يكشف لنا عبد لله العروي في كتابه «دفاتر كوفيد» أنه ينتظر، ككل مغربي ومغربية، خطابات الملك في الظروف التي يكون لها ميسم خاص، كما هو حال الظروف التي تمر بها بلادنا مع جيرانها.
وهو يكتب، في ص 42، تدوينته يوم ذكرى المسيرة الخضراء «في انتظار خطاب من المنتظر أن يجيب عن الأدلة التي أثارها الموقف العدواني المتعمد للجزائر» وهو موقف انتظاري كانت وراءه،كما قلنا، خطابات وممارسات التصعيد الذي وصل إلى حد قطع العلاقات..» وهو يشرح سياق انتظاراته، من خلال التدقيق في عقيدة العسكريين الجزائريين «عكس العديد من الناس اعتقد بأن العسكريين الذين يسيرون البلد الجار لديهم بالفعل استراتيجية، وهي استراتيجية بومدين»، ويعني بطبيعة الحال الرئيس هواري بومدين، والذي عادت الإحالة عليه في الخطاب الرسمي الجزائري بشكل كبير، كما عادت بلاغات التذكير بتراثه السياسي بقوة عند السياسيين وفي شبكات التواصل الموجهة. ويعتبر العروي أن «هذا ما يؤكد (ليلة البارحة) ما سمعته في التلفزيون». ويتعلق الأمر بخطاب عسكري متقاعد هو هنا المدعو مختار مديوني، الذي اشتغل سابقا بالقوات الجوية الجزائرية، والذي دعا إلى تنفيذ هجمات إرهابية بالأراضي المغربية.. وجاءت دعوته عشية احتفالات ذكرى المسيرة الخضراء،وكذا بعد القرار الصادر عن مجلس الأمن، والذي كان عكس توقعات الجزائر…
الضابط دعا في برنامج تلفزيوني بثته قناة «الحياة» الجزائرية: «يا صحراوى الذين يبتغون الاستقلال، موتوا واستشهدوا على بلادكم، وحولوا الحرب حتى داخل الأراضي المغربية بغرض خلق الرعب وسط المجتمع المغربي».
وهو ما استفز العروي الذي اعتبر أن الضابط في الواقع يعيد إنتاج البروباغندا الجزائرية التي أعقبت المسيرة الخضراء في منتصف سبعينيات القرن الماضي.. وعناصر هاته الدعاية تقوم على «الثورة ضد النظام الملكي، اللجوء إلى العمليات المسلحة في المدن الرئيسية لترويع السكان والسياح، طرد المغاربة القاطنين في الجزائر لخلق مشاكل للسلطات، وتشديد الحصار الاقتصادي…». وهي كلها عناصر تم تحيينها في الممارسة والخطاب الجزائريين في السنتين الأخيرتين، وهما موضوع القراءة التحليلية للعروي.
يقول العروي إن كل ما سبق غير واقعي بطبيعة الحال، لكنه يدلنا على الحالة الذهنية التي تعم في البلاد «هوك» كما بدأ الناس يقولون والتي لن تختفي بين ليلة وضحاها». ويقول العروي «إن الكثير من الجزائريين، بمن فيهم المعارضين للنظام في بلادهم، يشاطرون هاته الرؤية الكاريكاتورية للمغرب. الدليل على أن الأمور على هدا النحو هو أننا نجدها لدى الذين يتعاطفون مع الجزائر من بين التونسيين والموريتانيين. ولا أحد يمكنه القول إن الأمر يتعلق بأقلية لدى النخبة الحاكمة، والتي سيكونون مجبرين في يوم من الأيام على مناقشتها. ومن ذلك يستنتج العروي، بالنسبة للمغرب، أن الواجب هو «تغيير الأفق وألا نأمل في العودة، في يوم قريب، إلى الوضع القائم السابق statu quo ante..
ومن هاته الزاوية السلبية إزاء المغرب والأمة المغربية، سيبقى دوما هناك القليل، ومن هذا القليل علينا أن ننطلق مجددا».
بهذه الحالة الذهنية، إذن، انتظر العروي خطاب الملك الذي ألقاه بمناسبة ذكرى المسيرة، وكتب عنه في اليوم الموالي أي يوم 7 نونبر 2021.
وقد اختار المؤرخ أن يتحدث أو يعلق على خطاب الملك، من خلال ما قاله محلل مأذون ورسمي، الذي صرح بأن «خطاب المسيرة الخضراء واقعي». وهو يعتبر أن العكس هو الصحيح، ويواصل العروي حديثه في الموضوع»المغرب يضع شروطه، والتي تعد بدهيات في نظره.. لكن ما يقوله الآخرون، والذي يبدو لنا غير واقعي بتاتا، يعد في نظرهم هو البداهة بعينها» وكل طرف، أي المغرب والآخرون، يعتبر أن القانون الدولي هو قانون فعلي ونافذ. والحال أنه منزوع السلاح ، تماما، كما تبين ذلك العديد من الوقائع والنزاعات التي تم تجميدها. ويستدل في ذلك بما روي عن كارتر في حديث له مع عرفات …
ويواصل العروي تحليله للخطاب من زاويته التأملية بالقول إن المغرب يمكنه أن يثمن كون بعض الدول اعترفت بشكل سيادي بمغربية الصحراء، ولكن المغرب لا يمكنه أن يحول هذا الفعل أو الواقعة إلى حقيقة قانونية، وكل بلاد سيدة نفسها في عدم الاعتراف بهذا الواقع ..» ولا يرى العروي إمكانية أن تقوم الجزائر بهاته الخطوة، أي الاعتراف بالواقع كحقيقة قانونية، في نفس الوقت الذي لا نقوم نحن أيضا بالخطوة نفسها إزاء سبتة ومليلية بعد قرون من الزمن، أو بخصوص بشار وتندوف.
في تقدير العروي، يمكن للمغرب أن يواصل رفضه التعامل تجاريا واقتصاديا في الصحراء مع البلدان التي لا تعترف بمغربية أراضيه، ولكن لا يمكنه أن يجبرها على القبول بهاته الاشتراطات التي يضعها». والخلاصة أن المغرب، سيضطر، عمليا، أي في الجانب الميداني الفعلي، إلى الحكم على كل حالة على حدة أي حسب قانون الربح والخسارة..
هكذا يبدو أنه لا تخلو كتابات عبد الله العروي من تفاعل مع الأحداث الراهنة التي تكون لها حمولة تاريخية، أي تطبع تاريخ المغرب بشكل من الأشكال، ومن ذلك مناقشاته مع الخطب الملكية التي كان لها طابع فاصل، وشكلت قطيعة مع ديبلوماسية المغرب السابقة.
وفي غشت 2021 يناقش العروي فكرة القوة الإقليمية للمغرب، وما تفرع عن الموقف الأمريكي من الصحراء وكان واضحا في الدعوة إلى التواضع، و«ترك الآخرين يقررون أو يقولون إن كنا قوة إقليمية أو لا»، مع ميل واضح إلى أن استمرار المناكفة في حقه يعد دلالة سلبية، ولا يقر بهذا الوضع من طرف الدول التي تهمنا لاسيما فرنسا…
قد يكون العروي مؤمنا بأن النسق التاريخي أو نظام التاريخانية وعليه يبدو له أن ما يشوش كثيرا على المحللين السياسيين أو المتابعين للأحداث الراهنة هو أنه يغيب عنهم بأن الكشف عن حاضرنا لا يأتينا، بالضرورة، من مستقبل يصعب علينا سبر أغواره، كما تعودنا في كل تحليل سياسي يريد تسليط الضوء على القرار الجيد، بل قد يأتينا من وقائع التاريخ القديم الذي يعود أحيانا إلى ما قبل قرنين من الزمن.
ويتضح ذلك من خلال محاوراته الضمنية أو الصريحة مع نخبة الجزائر، ومع قادتها أو قادة الانفصال كما في تعقيبه على تصريحات إبراهيم غالي.. وهو سجال يذكرنا بسجال مشابه تم في لحظات سابقة بين الشهيد عمر بنجلون والقيادي الانفصالي احمد بابا مسكي..
بالعودة إلى اشتراط الاعتراف بالصحراء في إقامة التبادل الاقتصادي والشراكات مع المغرب، يقول العروي إن خطاب المسيرة، أو خطاب النظارات التي يرى بها المغرب، هو «خطاب صادق، وواضح»، ولكنه «لم يكن له أن يكون واقعيا» كما قال المحلل السياسي الذي تابع المؤرخ تحليله ..
يتبع
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 22/06/2024