الصين وأمريكا: الغموض في الاستراتيجية والوضوح في العداء؟

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

أعيد طرح السؤال الذي طرحته مجلة «الفلسفة مازاغين» لحسابي الشخصي: ماذا لو أن الصعوبة في أن نكون سعداء في العالم اليوم سببه سوء فهم لغوي؟ ونترجم السعادة اليوم .. بالعيش في عالم هادئ، لا تلوح في أفقه أي حرب مسلحة بين بيكين وواشنطن!
تفسير حالة العالم، وهو على شفا حفرة من نيران، بسوء فهم لغوي يستند إلى رؤية سيكولوجية سببها آليات النحو العادي ..محاولة غير محمودة العواقب، ولا شك! ولكن المعنى الذي يغري بهذه المقاربة الفلسفية للصراع في العالم هو المفهوم العجيب الذي تصف بها الولايات المتحدة سلوكها الاستراتيجي إزاء الصين، وهو مفهوم الالتباس الاستراتيجي أو الغموض الاستراتيجي، وهو غموض أشعر بالفعل أنه يسبب لي سوء فهم كبير، ومعناه أن قواعد اللغة، في صناعة المفاهيم، قد تمثل للجغرافيا السياسية ما يمثله الحدس لقواعد الرياضيات، بمعنى أن صرامة التحليل لا تمنع من وجود شاعرية ما في استلذاذ الهامش الممكن للخطأ، وتفعيل مجسات الاحتمال !
واشنطن اختارت هذا الالتباس في تدبير علاقاتها بين الصين وتايوان، عبر نحت مفهوم يبدو من الصعب التسليم به في العلاقات الدولية، وهو مفهوم «الغموض الاستراتيجي»، الذي يعود إلى فترة إنشاء دولة الصين الشعبية، في سنة 1949 ، وقتها هرب » تشانغ كاي شيك»، زعيم حزب «الكومينتانغ» إلى تايوان وشكل حكومة منفصلة هناك بعدما خسر الحرب في المواجهة مع القوات الشيوعية بقيادة »ماو تسي تونغ، صاحب الكتاب الأحمر !
وظل الاسم الرسمي لتايوان هو «جمهورية الصين» في حين أن البر الرئيسي ( أي دولة بيكين) أطلق عليه «جمهورية الصين الشعبية».
طوال ثلاثة عقود من الزمن ظلت واشنطن تعتبر قادة تايوان هم الممثل الشرعي للصين، بدون وجود علاقات رسمية مع بكين قبل أن يتغير هذا الموقف في عام 1979 …
ومنذ تلك الفترة تأسس مفهوم الغموض الاستراتيجي هذا، الذي يعني إقامة علاقات وثيقة مع تايوان بدون الاعتراف بها دولة ممثلة للصين، والاعتراف ببكين الدولة الصينية الشرعية، وترحب بالصين في الشرعية الدولية ولكن لا تسمح لها ببسط سيادتها على «تايوان»، مقابل التعامل مع تايوان والدفاع عنها، بدون السماح لها بالانفصال أو فتح سفارة أمريكية هناك !
هذا الالتباس تحرص واشنطن على تغذيته، بما يضمن باستمراره على قيد الاستراتيجية والحياة، وتأتي الزيارة التي تقوم بها نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، للزيادة في منسوب الغموض، وتفاصيله المملة، فهي زيارة رسمية لثالث شخصية في نظام الحكم الفدرالي الأمريكي، لكن الزيارة التي اعتبرتها بكين خطيرة للغاية، تثير «اضطرابات في كافة أنحاء العالم بما في ذلك في الولايات المتحدة حيث تعتبر السيدة المعروفة بمهارتها في التكتيكات، مكروهة من جانب المحافظين».
والغموض يشمل مواقف حزبها والجدول الزمني للزيارة، ونجد أن حزبها أبدى انزعاجه «والزيارة» لم يتم تأكيدها رسميا حتى هبوط الطائرة العسكرية الأمريكية التي كانت تقلها في مطار العاصمة تايبيه مساء الثلاثاء الماضي، والبيت الأبيض زاد في الغموض، عندما عبر عن انزعاجه من الزيارة دون أن يمنع ذلك الناطق باسمه جون كيربي من عتاب بيكين وتنبيهها إلى أنه ما من سبب لتقوم بتحويل الزيارة إلى أزمة أو نزاع!
الواضح أن الأمريكيين اختاروا أن يجعلوا من الصينيين أعداء واضحين، ودفعوا الحلف الأطلسي إلى تبني المواجهة معها في قمة مدريد مؤخرا، مع محاولة الاحتفاظ بغموض استراتيجي في تدبير هذا العداء!
وكانت الورقة الخاصة بالرؤية الاستراتيجية في نهاية يونيو بمدريد قد أكدت أن «جمهورية الصين الشعبية تقوم بعمليات هجينة وإلكترونية خبيثة، وتبث خطابا عدوانيا وأخبارا مضللة ضد الحلفاء وتضرّ بأمن التحالف»، كما تشير الورقة إلى تعميق علاقات الصين مع روسيا «ومحاولاتهما المشتركة تخريب النظام الدولي، سواء في الفضاء أو العالم الإلكتروني أو في البحر»…
وهي مقدمة لبناء محور غربي أطلسي في مواجهة محور روسي صيني… وهذا الوضوح الذي نراه، يبدو أنه يقف عند عتبة الجغرافيا السياسية بجوار الصين !
يبقى سوال من باب سوء الفهم المنتج: ألا يكون الغموض الاستراتيجي هو أيضا طريق في أروقة الإدارة الأمريكية للحفاظ على توازنات صعبة داخل مراكز القرار، أي أن الغموض يسمح بالموقف ونقيضه ويترك للقوى المتصارعة داخل الإدارة الأمريكية الحفاظ على توازن بينها أكثر من التوازن مع الصين…؟
قد يكون !…

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 05/08/2022