العالِم المغربي القادم من اليسار والرئيس ترامب
عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
يلقي الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أمام البيت الأبيض، كلماتٍ مقتضبات، بتركيز وجدّية، ثم يفسح المجال لرجلٍ متوسط القامة، أصلع، وجهه غير مألوف لدى أمريكيين كثيرين، باستثناء الخبراء والأساتذة الذين صادفوا منصف السلاوي من قبل، في أروقة جامعات أمريكية مرموقة، مثل كلية هارفارد للطب وجامعة تافتس. ولو قدر للعلامة الفقيه، حجة الإسلام أبي حامد الغزالي الذي توفي سنة 505 للهجرة، أن يعيش هذه اللحظة، لما تردّد في القول إن في ذلك “إحساس من ينوب عنه بالصلاح في فرض كفاية”، وهو شعور كل ابن بلد خرج من طينته عالِم محمود “قادر دوليا على مصالح الدنيا في الطب”.
وفرض كفاية، في تعريف صاحب “إحياء علوم الدين”، هو “علم ما لا يستغنى به في قوام أمور الدنيا كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان ولو خلا البلد بمن يقوم به حُرجَ أهل البلد، وإذا قام به واحد، كفى”.
لا تعادل صورة العالم المغربي في الأوبئة، منصف السلاوي، إلى جانب الرئيس الأمريكي ينصبه على رأس لجنة علمية للبحث في شؤون “كوفيد – 19” أية صورة أخرى في الحالة الذهنية للمغاربة اليوم، فهو ابن المدرسة العمومية المغربية الناجح، حيث تابع دراسته، في ثانوية في الدار البيضاء، إلى أن حصل، وعمره 17 سنة، على بكالوريا علمية. سافر بعدها إلى بروكسل، وكانت وقتها أوروبا محفلا يساريا صاخبا للطلبة المغاربة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. وتنقل بين جامعات دولية عديدة، بناء على كفاءته الذاتية وأحقيته العلمية، وبعيدا عن أي تأهيل عمومي ومتابعة رسمية من الدولة المغربية.
منصف السلاوي، هو أيضا ثوري سابق، دفعته صروف العلم إلى الهجرة، وسنّه في السابعة عشرة عاما، عندما انتقل إلى الدراسة في بلجيكا، ولم تكن وقتها قِبلة الشبيبة المغربية، على غرار باريس الفرنسية، وهناك اعتنق الثورة في شقّها الراديكالي تماما، مشخصا في الحركة الطلابية، من خلال الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، والذي كان بؤرة الصراع والأفكار والاعتقالات والتصفيات السياسية مدة لا تقل عن ثلاثة عقود، وما زال بؤرة توتر تحت رايات جديدة. والرعيل الذي غازله منصف السلاوي هو اليسار الراديكالي، الثوري، حركة “إلى الإمام” التي تأسست على يد المعارض الكاريزماتي للحسن الثاني، أبراهام السرفاتي، وثلة من يساريين حالمين ومتجذرين، نادوا بالجمهورية والثورة الشعبية وصراع الطبقات. في صوره عن تلك الفترة، يبدو العالِم الذي تساقط اليوم نصف شعر رأسه، وصار شهيرا بصلعته، بشنب يكاد يكون بعثيا، وبنظارتي بورجوازيٍّ صغير من ثوار أمريكا اللاتينية، كما لو أنه خرج للتو من فيلم عن حركة توباماروس، والذين استمعوا له يتحدث في برنامج خاص لإحدى القنوات العمومية المغربية، عن العدل والعدالة، سيجدون في كلامه بعض الصدى لما قاله، ذات يوم، أيقونة جيله الثوري، أرنستو تشي جيفارا: “كونوا دائما قادرين على الشعور، من أعماق قلوبكم، بأي نوع من الظلم المرتكب ضد أيِّ كان وفي أي مكان من العالم، تلك هي أفضل ميزة في الثوري”. وقد احتفظ بأفضل الميزات، ولا شك من زمن الثورة، ثم أضاف إليها العلم.
العالم الذي كان واقفا يومها جنبا إلى جنب مع الرئيس ترامب، أدرك أن البحث البيو- طبي استمرار للثورة بطريقة أخرى، في المختبر، لا في الشوارع والحارات بؤر الأحراج الثورية والكفاح المسلح، وبين الطلبة المخبريين، لا بين عمال البروليتاريا والثوار، بمجهر بين يديه، لا بكلاشنيكوف على الكتف. في لحظةٍ، بدا أن الثورة يمكن أن تستمر بالبحث العلمي، سيما في علم دقيق وقتها، هو البيولوجيا الجزئية. وهو لا يتحدّث كثيرا عن تلك الفترة، اللهم إلا عن انغماسه في البحث العلمي، إلى أن اكتشفته قنوات الإعلام، صارت قنوات أمريكية من قبيل “سي. إن. إن” تهتم به.
لقد تناقل المغاربة، كالنار في هشيم التواصل، أخبار تعيين المواطن ابن البلد، من رئيس أكبر دولة الذي فسح المنبر لكي يتكلم المغربي، بتواضع غير معهود في الرئيس المقاول.. وربما قارن كثيرون في العالم العربي الإسلامي بين وقفة العالم، الواثق من نفسه الذي تحدّث إلى الرئيس بطلاقة، وبدون مبالغة في البروتوكولات، وحكام عربٍ كثيرين يفضلون لو أنه يطبطب على أكتافهم من الرضى، بعد أداء الفواتير… تكليف الرئيس الأمريكي، ترامب، المغربي منصف السلاوي، الرئيس السابق لقسم اللقاحات في شركة “غلاكسو سميث كلاين”، لتطوير لقاح جاء ليقدّم كفاءته، في تنسيق العمل من أجل تطوير لقاحات وعلاجات لكوفيد - 19، في إطار جهد مشترك بين عدة قطاعات وزارية في بلاد العم سام. صورة منصف السلاوي، إلى جانب ترامب، قَوَّت اعتزازا مغربيا بالعقل العلمي المغربي، لأنه يشبه المغاربة الذين وثقوا في المدرسة الوطنية ثقة من يبحث عن سلم الرقي والارتقاء معا، ولكن الصورة فتحت كذلك جرح الهجرة، ووسعت من سؤال التربية والتكوين في بلاد تتخبّط، منذ عشر سنوات على الأقل، في البحث عن نموذج يخرج المدرسة والجامعة من معضلةٍ كبيرة، يقر الجميع بأنها خانقة..
لم يخلُ الاستقبال المغربي الداخلي من زواج السخرية بالغصّة وبالسؤال الجدّي، وتزامن مع شعور عام بالثغرة العلمية في الجدار الصحي لمحاربة الوباء. وأضحى الاجتهاد الذي طفا على السطح، في هذا الباب، المجهود العلمي في المغرب، في ثغرة كورونا، بين الطوارئ الصحية والبحث العلمي. وكان لافتا أن مؤسساتٍ عديدة سارعت إلى تكييف عملها العلمي بالبحث في المواد الاستعجالية، كالكمامات وأدوات التنفس الاصطناعي والاسِرَّة المتقدمة واللوجستيك الصحي الضروري.. كما أبانت الأزمة الصحية عن انخراط مكونات النسيج الصناعي المغربي، وكذا المراكز البحثية التابعة للجامعات، لإيجاد أدوات مبتكرة لمواجهة الجائحة. وتقاسمت الصحافة المغربية والوكالات الرسمية والقنوات أخبار الاتحاد العام لمقاولات المغرب، والجامعات، العمومية منها والخصوصية، والوزارات، والتنافس اللحظي في دخول عالم الاختراعات من بوابة الفيروس والقضاء عليه. وفي شهر أبريل وحده تم تسجيل قرابة عشرين محاولة ابتكار، ذات معنى، تناقلتها الوكالات.
وللاعتزاز بمنصف السلاوي وجه آخر، يخشاه كل الذين يتعقبون الآثار الأخرى للإشعاع العلمي، وهو التحفيز على البحث عن آفاق أخرى، تضمن التكريس والاحتفاء بالقدرات العلمية، فهذا الاعتزاز لن يكون بدون أن يحمل في رياحه بذور عناصر جديدة للتشجيع على الهجرة، خصوصا وأن المغرب يعرف هجرة كبيرة بسبب الظروف التي توجد عليها وضعية البحث العلمي وظروف العمل الخاصة به، وهو أمر استرعى انتباه العاهل المغربي الذي لم يتردد في تسمية الأشياء بمسمياتها، في أحد خطاباته بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب (20 غشت)، والتي عادة ما تكون مناسبة لخطابات قوية وعميقة. أشار إلى أن شبابا كثيرين في المغرب، وخصوصا خرّيجي جامعات العلوم والتكنولوجيا، “يفكرون في الهجرة، ليس فقط بسبب الحوافز المادية المغرية في الخارج، ولكن أيضًا بسبب أنهم لا يجدون في بلدهم الظروف المناسبة للتوظيف والتقدم الوظيفي، والابتكار، والبحث العلمي”. وسبق لوزير التربية الوطنية والتعليم العالي، الناطق الرسمي باسم الحكومة، سعيد أمزازي، أن اعترف بأن أكثر من 600 مهندس مغربي يغادرون بلدهم كل عام، وهو ما يعادل خريجي أربع مدارس عليا للهندسة خلال عام. الأطباء ومهنيو الصحة، أمثال السلاوي، يهاجرون بالآلاف، إذ بينت دراسة للمجلس الوطني للأطباء في فرنسا أن عدد الأطباء القادمين من المغرب، المزاولين للمهنة في فرنسا بشكل دائم، يصل إلى 6150. وكشفت دراسة نشرتها جامعة الدول العربية أن هناك حوالي 50 ألف طالب مغربي يدرسون في الخارج، وحوالي 20 ألف خبير مغربي في مجالات مختلفة، اختاروا العمل خارج بلدهم.
البحث العلمي هو الغابة التي عرّتها شجرة منصف السلاوي، وهو خلاصة لقاء ثلاثية صعبة لدى الدول المتعثرة، على الرغم من الوعي بها ، ثلاثية: الباحثون، مواضيع البحث و… التمويل، فالكل يجمع على وفرة المورد البشري للبحث العلمي وتطور الكفاءة، كما تدل على ذلك نسبة المغاربة الذين يحتفظ بهم في الدول المتقدّمة، ولكن هناك تعثرا في ما يتعلق بالمواضيع البحثية، من جهة تأرجحها وغياب استراتيجية وطنية لها. أضف إلى ذلك أن موارد التمويل، على الرغم من الوعي بها، ما زالت دون المستوى المطلوب… وفي هذا الصدد، يعيب كل المتابعين للموضوع زهد الميزانية المرصودة للبحث العلمي، إذ لا تتعدى اليوم 0.8% من الناتج الداخلي الخام، في حين أن المتوسط العالمي يصل إلى 2% عموما، وحتى 4% في الدول المتقدمة، ويطل حلم الاستراتيجية الوطنية للبحث العلمي 2025 على الوصول إلى نسبة 1%. ظرفيا.
خيم “كوفيد – 19″ بفيروساته على نقاش البحث العلمي، وتم تخصيص ميزانية مليار دولار للبحث فيه وفي تطوراته وتحولاته، ولكن ذلك لا يزيد عن كونه جوابا ظرفيا على قلق وباء ظرفي، قد لا يساير البحث العلمي من بعد، في استراتيجية قادرة على إيجاد قاطرة للمجتمع العلمي الذي يطمح إليه بلد يريد أن يكون صاعدا، كالمغرب، فالتمويل ليس مخصصا حصريا للبحث العلمي بميزانية مستقلة له، بل هو أيضا تابع لـ”بيروقراطية علمية” تتقاطع فيها قطاعات عديدة، منها الوزارية ومنها المهنية… إلخ.
ولم يصل البحث العلمي إلى أن يصبح أولوية وطنية بعد، كما هو مشكل التعليم الذي سبق لخطاب رسمي أن اعتبره بمثابة القضية الوطنية الثانية، بعد قضية الوحدة الترابية.
يمكن للصورة أن تكون مغريةً لشبان وباحثين عديدين، لا تحرّكهم دوما الأوضاع المالية الناجمة عن الاستقرار في الخارج، بل أيضا الاعتراف بوجود كيان علمي وذكاء يستحق التقدير، في بلاد لا تكون الكلمة فيها لغير الاستحقاق والجدارة. وبعيدا عن التمويل. يشكل القانون عائقا آخر، بحيث إنه لا يتيح التجارب الإكلينيكية، كما ذكر ذلك عز الدين الإبراهيمي، مدير مختبر البيو- تكنولوجيا لكلية الطب في جامعة الرباط وأستاذ المادة نفسها.
هي صورة التباس، وتكثيف معقد، كالموناليزا، تجمع بين ابتسامة الفخر وظلال التخوف والكآبة، جرّاء وضع لا يليق.
صدر بموقع «العربي الجديد»
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 20/05/2020