القيصر والسلطان وإعادة تشكيل شمال أفريقيا

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

يمكن للعالم، أو الشرعية الدولية، أن تعترف بحكومةٍ ما، ولكن لا يمكن لهذه الحكومة أن تبقى إلا بتدخل عسكري لبلدٍ له مصلحة مباشرة معها، فالشرعية لا تكفي، ولا بد لها من مصلحة. هذا هو الدرس الذي يمكن استخلاصه من الموقع الذي تحتله حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، بقيادة فايز السراج، فهذه الحكومة التي رأت النور عقب سقوط معمّر القذافي سنة 2011، بدعم من فرنسا وبريطانيا آنذاك، لم يعد يهتم لحالها أحد من أوروبا، المشغولة أكثر بالهجرات القادمة من الشرق، فالتفتت جهة الشرق، حيث العثمانيون الجدد يريدون تأويلا جديدا لموازين القوى في المنطقة، وبتوقيعٍ على بياض ديبلوماسي من دول الجوار. كما عبر عن ذلك أحد المتابعين للوضع، فليبيا تعيش، في العمق، فراغا كبيرا في الدولة، يملأه حضورٌ كبيرٌ من التدخل الأجنبي.
المتحكّمات في هذا الوضع متعدّدة ومتراكبة. هناك الإقليمي الذي يعد امتدادا لما بعد الربيع العربي، هناك الدولي، المتعلق بمواقف الصراع مع روسيا والغرب، وهناك الرهانات المصلحية ذات المردود الاقتصادي. في المقترب الإقليمي، نجد أن القضية الليبية دخلت الدائرة الإقليمية للصراع، مع التدخل التركي الذي جعل من المصلحة القومية قاعدة للتدخل، وطلب التصريح من البرلمان، وكان واضحا أن مقولة مصلحة تركيا في حوض الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا رسمت دائرة النفوذ الجديد لأنقرة التي امتدت إلى حدود ليبيا.
وبالنسبة للمتخصصة السياسية في الشرق الأوسط وتركيا، جانا جبور، صاحبة كتاب “تركيا، أو ابتكار الديبلوماسية الصاعدة”، فهي ترى في تصريح ليومية الفيغارو الفرنسية (الجمعة 3 يناير الحالي) أن “القرار التركي بالتدخل يندرج في إطار الحرب الباردة الإقليمية التي تتصارع فيها تركيا من جهة والسعودية والإمارات ومصر من جهة أخرى، والتي تدور أطوارها في جبهات عديدة: سورية واليمن ولبنان والعراق”. وعليه، فإن الملف الليبي هو فرصة ذهبية لتركيا للعودة بقوة إلى منطقة شمال أفريقيا.
وإذا كان من الصعب وضع حدود صارمة بين المقترب الجيو- استراتيجي والمصلحي الاقتصادي، فإن العودة إلى شمال أفريقيا لا تخلو من إرادة في تدبير تراجع الدور التركي في قوس الثورات السابقة، أو عقد من الغليان، ففي تقدير الموقف، من زاوية تركة الربيع العربي، يرى كثيرون في المنطقة وفي الغرب أن تركيا فقدت الكثير من نفوذها في المنطقة، والذين يرون أنها حازته مع ثورات 2011، سيما في مصر بعد الانقلاب على الرئيس محمد مرسي. وفي العراق وسورية، حيث مال ميزان القوة لفائدة الإيرانيين والروس، على حساب أنقرة التي قدّمت نفسها أنها في موقع تاريخي متقدّم أو دافعت دوما بأنها “من الجانب الجيد للتاريخ”، الجانب
الذي تقوده حكومات ما بعد الثورات، ومعارضة الحكومات التي تناهضها كما في سورية الأسد، غير أن تركيا منيت بالفشل في انخراط تونس والجزائر، على الرغم من مساندتهما المتفاوتة الوفاق الوطني.
نقل السيناريو السوري إلى شمال أفريقيا لن يقف عند حدود التشابه، من حيث الفاعلون وسياساتهم، بقدر ما يعني نقله إلى منطقةٍ بحساسية مغايرة للمحيط السوري، أي منطقة رهانات الفاعلين فيها الجديدة، قد تضاف إلى رهانات سابقة خامدة منذ عقود، إن لم نقل سنوات، سواء في شمال أفريقيا أو في الساحل.
الجزائر التي تملك أطول حدود برّية مع ليبيا تصل إلى ألف كيلومتر وضعت أمام الأمر الواقع، وعارضت التدخل التركي، وسيكون عليها أن تدبّر أخطر تحول في حياتها، بعد أن ظلت تعتبر المغرب الشقيق عدوها اللدود في المنطقة، كما أنها ظلت تعتبر، طوال الحراك، أنها هدف لمؤامرة تروم زعزعتها، ولهذا لم تتجاوب معه، على الرغم من الحذر في التعامل مع تعبيراته.
الجزائر اعتبرت أنها وضعت أمام الأمر الواقع، في وقتٍ كانت تعيد فيه بناء دولة مهدّدة من الداخل أكثر من الخارج، وفي وقتٍ كان فيه نصف النظام يأكل النصف الآخر.
كيف ستدبر ربيعا جاءها متأخرا بعد أن أصبحت القوة التي كانت الراعية له في نسخته الأولى، على جوارها المباشر؟ سؤال لن تستطيع الإفلات منه… تدويل الصراع، بحساب اقتصادي، يحيل على منطقة الغاز والمحروقات المتوسطية، التي ستشرف عليها أنقرة بموجب اتفاق سياسي، وسط توقعاتٍ بغضب من قبرص ومصر (التي تعتبر ليبيا مجالا حيويا للأمن القومي المصري) وإسرائيل. وعلى المستوى الاستراتيجي، يبدو للغربيين، ولجزء من نخبة شمال أفريقيا، أن تركيا وروسيا تلعبان اللعبة نفسها، قد تصل إلى إقامة قواعد عسكرية، تتمّان بها محاصرة القارة الأوروبية، بعد محاصرتها من شرق المتوسط، في وقتٍ تنسحب فيه أمريكا من شمال أفريقيا. وعلى الرغم من لعبة التنافس الظاهري، حيث روسيا تتحالف مع الجنرال المتمرّد، خليفة حفتر، وأنقرة مع فايز السراج، فإنهما يضعان بيادقهما حسب منطق واحد، هو مناهضة الغرب فوق أراضٍ يمكنها أن تمنحهما “قفلا استراتيجيا” على الأبيض المتوسط وأبعد منه، على منطقة الساحل.
والثابت الذي لا يمكن القفز عليه، هو وجود قوات غير نظامية، ومنها قوات ربحية يمكنها أن تعمل مع أي فريق متصارع مقابل المال، وهي قوات يصعب التحكّم فيها، خصوصا عندما تكون الحدود ممتدّة وشاسعة، مع بلد. أضف إلى ذلك وجود بؤر مشتعلة، ومواقع هيكلية للتنظيمات الراديكالية والإرهابية حتى، في حدود هذا الجوار الصعب في أفريقيا والساحل، يمكنها أن تقدم إغراءاتٍ لكل من يحارب مقابل المال!
بالنسبة للمغرب الذي رعت حكومته حوارات وطنية في مدينة الصخيرات الشاطئية التي اشتهر اسمها بالوصول إلى مخططات سياسية للوفاق الوطني في ليبيا، ما زال ميل الديبلوماسية واضحا نحو دعم الحوار الداخلي، والابتعاد عن أي حل عسكري. المغرب الذي سجّل موقف الحياد التام إزاء تطورات الوضع الداخلي الجزائري لا يحبّذ التدخل في الشأن الليبي بدون طلب من القوى السياسية الموجودة في الساحة، فهو يدرك أن الحلول العسكرية لا تستقيم في منطقة شمال أفريقيا أبدا، وأن التموقع السلمي يجعله في منأىً عن الصراعات المباشرة. غير أنه وتركيا يوجدان في منطق واحد، هو دعم الوفاق الوطني، وإنْ لأسبابٍ متناقضةٍ تناقضا تاما: المغرب بسبب أن حكومة السراج جاءت نتيجة سعيه الديبلوماسي الخاص، والذي جعلها تنبثق من اتفاقية الصخيرات في 2015، وتركيا لأن الحكومة مدعومةٌ من القوة القريبة من الإخوان المسلمين في البلاد. كما أن المغرب يدير مرحلة ما بعد الربيع العربي بطريقته الاستباقية، والشغل الشاغل اليوم هو تأمين انطلاقة جديدة نحو نموذج تنموي وسياسي جديد، يكون قاعدةً لتقوية أجندته الوطنية التاريخية، متمثلة في حل قضية وحدته الترابية التي تشكّل نقطة خلاف كبير مع الجارة الجزائر، سواء في صيغتها القديمة أو صيغتها الجديدة، كنتاج للحراك الشعبي وللانتخابات المؤطّرة عسكريا.
»نشر في موقع العربي الجديد يوم الثلاثاء..»

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 08/01/2020