استعمل الخطاب الملكي مصطلح الجدية 14 مرة، خلال قرابة 14 دقيقة دامها الخطاب السامي، ويكون الملك قد ردد المصطلح المفهوم، والمعنى بكل حمولاته، من بساطة المعنى إلى عمق النتيجة، على رأس كل دقيقة من الدقائق التي استمر فيها الخطاب.
ولا شك أن خطاب الجدية، بما هو خطاب عيد العرش لسنة 2023، سيكون مرجعا للحاضر والمستقبل، وعتبة تذكرنا بالقيم الواجب تثمينها في علاقة المسؤولين والمحكومين بقضايا الوطن..
يعلمنا ماكس فيبر أن نجاح الدولة الأمة (وخدمتها كذلك) غالبا ما يكون نجاح ثقافة ما، ثقافة النتيجة ونجاح نظام رمزي معين من المعتقدات والقيم والقناعات المشتركة بين مجموع المواطنين، وهذه القيم، تكون في قلبها قيم النجاعة.
وليس صدفة أن الخطاب الملكي بني على هذا البعد التكويني في بناء خطاب العرش، وهو يتحدث عن النبوغ المغربي في العلم (فأخلاق المسؤولية والمردودية لها علاقة بالسياسة، كما بالعقلانية التقنوعلمية في العالم المعاصر)، وفي النبوغ المغربي في الكرة، وفي الديبلوماسية وفي الإنجازات الاقتصادية، وفي إطلاق المشاريع البديلة، وفي تحقيق بناء الدولة الاجتماعية كمشروع صلب وهدف.
ولعل الجدية لا تكتفي بترديد الوعد والإشارة بقدر ما تذهب إلى قلب المعضلة، وإلى هاجس الفعالية والتكيف مع الممكن لاستخراج أقصى ما فيه، وهي بالضرورة ضد العبث والتفاهة والانتهازية، وقد سبق هذا الخطاب خطاب آخر تحدث فيه الملك عن الحاجة إلى رجال الدولة والابتعاد عن الانتهازيين..
ليس هناك أي صدفة في الجمع بين مقدمة الخطاب (الحديث عن الدولة الأمة)، وعن منظومة القيم أومصفوفة القيم (ماتريكس)، حيث أننا نتعلم من الدراسات كلها ومن الممارسة السياسية، مقومات الجدل بين القيم وبين الدولة الوطنية.
إن الغاية من السياسة وهدف كل سياسي حقيقي هي، أولا وقبل كل شيء، عزة الدولة الوطنية وقوتها.
على ضوء هذا الربط يمكن أن نتحدث عن معاقل الجدية وعن عواقبها وآثارها البناءة في بناء قضايا الإنسان، وبناء علاقات اجتماعية قوية، وبناء بنيات الدولة التي تعتمد الاستحقاق والجدارة والنجاعة، وكل مصفوفة القيم ذات الصلة بالنجاح!
لقد اشتهر المغاربة بنحت دلالات تخصهم من خلال عبارات قد تكون لها سمات مشتركة مع ملايير البشر، لكنهم بينوها وكيفوها مع شخصيتهم… من قبيل النية ثم الجدية، وهي القيم التي صاغوا منها مشتقات عديدة بوحدانية المعنى، منها المعقول، والكلْمة، وما إلى ذلك من التعبيرات التي تفيد الجدية والإخلاص في العمل وفي العلاقات وفي الشراكات، وما إلى ذلك…