المؤتمر البرلماني للتسامح بمراكش

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
بعد مرور أقل من ثمانية أشهر على انعقاد المنتدى العالمي لتحالف الحضارات بفاس، أيام 22 و23 نونبر من السنة الماضية، تحتضن مراكش، العاصمة الروحية والتاريخية الأخرى في المغرب التليد، مؤتمرا برلمانيا حول الحوار بين الأديان والروافد المتفرعة عنها ثقافيا رمزيا وروحيا، وما إلى ذلك من مقومات الهويات المتجاورة.
التعدد الروحي، لا سيما الديني، في مراكش، تجربة مستعادة في الواقع باعتبار أنها ملتقى الأذواق الثقافية كلها، واللغات كلها، مراكش أيضا هي العنوان الأبرز في اللقاءات الدولية التي يتفرد بها المغرب (سواء الدولة أو الأحزاب أو المنظمات النقابية أو…).
وهي تاريخيا كانت جزءا من التعددية، حتى في عز الولادة.. في مراكش مثلا، التي أسسها المرابطون، تولى فيها المغاربة اليهود مناصب اسمية (أبو أيوب ابن لمعلم، سليمان بن فارسال … كانوا وزراء في الدولة المرابطية…).
ولعل التميز في الدورة التي تنعقد في المدينة الحمراء، حيث التاريخ ما زال حيا، والآخر جزء من المشهد اليومي للمدينة ومن مشهدها الثقافي الكوني ( إلياس عانيتي، روائح مراكش التي نالت نوبل للأدب، وخوان غويتيسولو نموذجا)، هو كون الاختيار وقع على المغرب، من طرف البرلمان الدولي، وبذلك يكون المؤتمر في رحاب الحضانة البرلمانية المؤسساتية تجربة أولى في الحوار بين الأديان، وقيما مضافة لما بدأه المغرب في فضاءات أخرى، وهي تجربة تأسيسية الأولى من نوعها تجعل الحوار يخرج من مساراته المعتادة إلى المؤسسات المعربة عن التعدد، بل إن المكان المختار هو بذاته تجسيد لأرض إفريقية بتاريخ مغربي تتلاقى فيه كل الحساسيات الثقافية والروحية.
ولعل الرمزية قوية في هذا الباب، من خلال إشراك ممثلي التيارات السياسية والفكرية والإيديولوجية المعبر عنها من خلال التعددية البرلمانية في تبادل برلماني يمس العيش المشترك.
وفي هذا السياق، للمغرب ما يقدمه كنموذج في ريادة الحوار بين الانتماءات الروحية.
فهو، تاريخيا، أرض لهذا التعايش ويعيش التعددية الروحية بالكثير من السلاسة والأريحية، ويعطي اليوم تعبيرات حداثية لما ترسخ تاريخيا، من خلال الدستور، ومن خلال القوانين المنظمة للمكونات الدينية، ومن خلال ترجمة روح التسامح في التنشئة التربوية والمواطنة للمغاربة، ومن خلال» قمم الروح « التي احتضنها أو التي رعاها في الرباط كما في روما، من خلال حوار أمير المؤمنين مع القيادات الروحية المسيحية (نداء القدس والبيان مع البابا).
إن أشكال التسامح ونبذ الكراهية والعنف واسع الطيف، تمتد من الإرهاب إلى الإقصاء إلى فرض التخفي مرورا بتحويل الشبيه المختلف إيدولوجيا إلى «آخر» يجب تقويضه بمنطق الهويات القاتلة التي ترفضه… إلى غير ذلك من الملامح التي تهاجمنا اليوم في العالم.
وأشكال اللاتسامح لم تعد تقليدية فقط بل انتقلت إلى أشكال جديدة منها الشعبويات المتطرفة وتوظيف الأديان ضد هويتها الأصلية، والحروب، والإرهاب الجديد وجعل الآخر مصدرا دائما للشك والارتياب..
ونحن نزعم اليوم أن المغرب مؤهل تاريخيا وثقافيا ومؤسساتيا وتنظيميا وديبلوماسيا لأن يقدم الجواب عن إمكانية مجابهته من خلال مقاربة النموذج المغربي، ويحسن بنا أن ننظر مليا إلى الرافعات التي جعلته ممكنا هنا والآن في المغرب، وغير ممكن في جغرافية نقتسم معها الكثير من المشاركات؟
ولعل أمام البرلمانيين في العالم الجواب عن السؤال المركزي بخصوص قدرة دسترة محاربة ونبذ كل مظاهر التعصب والكراهية، وإقرار التشريعات الوطنية من خلال البرلمانات الممثلة اليوم وانضمامها للاتفاقيات الدولية ذات الصلة، لتعزيز قيم التسامح داخل المجتمعات وبينها.
ولدينا سؤال متفرع عنها هو من صميم العمل البرلماني: كيف يمكن للتشريع والدستور أن يخلقا حالة حضارية، أو يتوجا مسلسلا إنسانيا في معركة قيم التسامح؟
وأعتقد بغير قليل من الجزم بأن الحالة المغربية، في دسْترة قيم التسامح الواردة في الدستور، والتي نصت على أن «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتھا الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات ھويتھا الوطنية، الموحدة بانصھار كل مكوناتھا، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدھا الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. «، تعبر عن تحصيل حضاري دام قرونا طويلة وهو اختيار واع، يساير الشكل الحداثي في إقرار شيء تاريخي، وأمام برلمانيي العالم تأمل التجربة المغربية من خلال دور إمارة المؤمنين التي توجد في قلب النسيج المغربي الحي، بدور متفرد ولا يضاهيه أي آخر، باعتبارها «الضامن للحرية الدينية والفاعل الرئيسي في تحقيق التقارب بين مختلف الطوائف الدينية».
وهي إحدى دعائم التسامح بحيث أنها تشكل اسمنتا مجتمعيا بواسطته تستطيع الملكية أن تكون قوة لترشيد التاريخ، قادرة على تأمين حداثة غير مكلفة مجتمعيا، وهنا أذكر كمناضل في حزب اشتراكي ديموقراطي أن ما يميز التجربة اليسارية المغربية، ليس فقط في الوسط الديموقراطي الاشتراكي، هو دعوة اليسار إلى مظلة إمارة المؤمنين الممثلة في الملك كشخص، ولأن أمير المؤمنين الذي يحكم البلاد له وضع اعتباري دستوري وسياسي وديني وروحي يضمن للمواطنين وغير المواطنين مسلمين أو مسيحيين أو يهوداً، ممارسة حقوقهم الدينية بشكل آمن.. وهو ما يسمح بتقويض التطرف دينيا كان أو مدنيا.
وسيكون على البرلمانيين في العالم الإنصات الحي لما تحمله النصوص، بما هي تعبير عن روح الأمة من خلال مصفوفةMatrix القيم، في دستور المغرب وقوانينه التي تدفعه إلى الانخراط في الأفق الكوني لقيم التسامح، كما هو متعارف عليها في الأدبيات أمميا، كخيار له مضمون، يتيح للمغرب التفوق الأخلاقي الذي يحمل عرضا دينيا مبنيا على الفقه المالكي والمذهب الأشعري، وعلى التصوف كما عند الجنيد، باعتبار ذلك مقوما من مقومات التربية الروحية داخل المجتمع …
وهناك اليوم طلب خارجي، عربيا وإسلاميا وغربيا، على نموذج التدين المغربي، ونذكر العمل المؤسساتي عن طريق (معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات)، وكان من ثمرته القدرة على التصدي للتطرف المنتشر على مشارف إفريقيا، التي تحتضن واحدة من عواصمها الأكثر عراقة هذا الموتمر.
وكلها تجارب يحرص المغرب على تقنينها بالطابع التشريعي، ولعل الأجانب اليوم، يهمهم أن يعرفوا كيف حافظ المغرب على « صورته كأرض للتسامح والتعايش والانفتاح، وعلى ممارسة الدين كآلية لإشاعة السلام»، حسب تعبير الرسالة الملكية في تحالف الحضارات.. .
لقد سبق للمغرب أن تقدم على هذه الجبهة من باب التشريع الدولي، بحيث تقدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقرار الذي اعتمدته تحت رقم 73/328 بشأن «النهوض بالحوار بين الديانات والثقافات وتعزيز التسامح من أجل مناهضة خطاب الكراهية» وهو القرار، الذي دعمته 90 دولة وكرس المغرب رائدا في الميدان.
قام المغرب بالتشريع كذلك في الهجرة التي تأتي بأوعية ثقافية معها وتأتي بالآخر إلى داخل أسوار الهوية المغربية، وهو ما سمح باستقرار عشرات الآلاف من المهاجرين، وفتح معها فضاءات الممارسة الدينية المسيحية في كنائس المغرب، التي يؤمها الكثير من المهاجرين من جنوب الصحراء بدون أدنى قلق أو مخاوف…
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 13/06/2023