المجلس الوزاري..صناعة الفارق في زمن المخاوف واللايقين..

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
المنظومة الصحية: الفصل الثاني من الثورة الاجتماعية!
في زمن المخاوف، كثيرا ما يميل العقل السياسي إلى الاحتماء بثوابت المألوف وعدم المغامرة، وربما يخضع للشلل الإرادي في التفكير، وما يصنع الفارق بين الاستسلام للمألوف والاجتراح التاريخي هو اختراق هذه العادات التي تبشرنا بها فترات الأزمات أو ما قبلها وما بعدها.. وفي زمن »ليس في الإمكان أحسن مما كان«، تأتي المفاجأة الثورية …
وما حدث يوم الأربعاء في المجلس الوزاري، كشف أن الأزمة تتحول إلى فرصة، كما يحب ملك البلاد أن يكرر منذ وصول الأزمة الأولى والتحاق الأزمة الثانية بها.. ولعل الدرس الظاهر هو وجوب أن تكون الإرادة الصلبة شرطا مسبقا في الظروف الحالية، محليا ودوليا، لكي تصدر عن بلدنا مشاريع قوانين أو مراسيم وقرارات هيكلية كبيرة الأهمية وذات شساعة ميدانية .. وقد أثبت اجتماع المجلس الوزاري الأخير. أن الشرط مستوفى لذلك، من أجل المشاريع المهيكلة، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا واستثماريا ومؤسساتيا، وأنه حاصل من أجل إنتاج خارطة الطريق، طموحة وجبارة بالفعل..
كان الشرط الأول من هذه الخارطة قد رأى النور من خلال قرارات تعميم التغطية الصحية الإجبارية التي بذلت فيها الدولة مجهودا خارقا، بل طرحته في ظروف استثنائية لنا ولغيرنا. وعبأت له الموارد وأقامت الدليل على قدرة المغرب على رفع سقف الطموح وتحقيق الوصول إليه..
واليوم يعتبر القانون المتعلق بالمنظومة الصحية، لوحده، ثورة عميقة بالكاد تقول اسمها، تمس رقعتها كل مناحي القطاع الصحي…
وقد كان ملك البلاد قد وضع أسس ذلك في خطاب حاسم عندما دعا إلى إعادة النظر في المنظومة الصحية..لتكون في مستوى ورش تعميم الحماية الاجتماعية« كما ورد في البلاغ. وبالتالي نحن أمام الفصل الثاني من الثورة الاجتماعية.بدون مبالغة..
نقرأ أن الهدف الأسمى هو صحة المغاربة، وتوفير إنتاج التغطية الصحية وتعميمها، باعتبارها أحد أكبر مشاريع العهد الجديد..عبر تغيير يمس ترسانته القانونية بهذا القطاع.
القانون الإطار، الذي أصبح صيغة فعلية ناجعة في القضايا الكبرى (التعليم مثلا)، يعطي الطعم لما هو آت، باعتبارها الطريق التشريعي لعادة بناء وتأسيس المنظومة الصحية، وجعل التغطية الصحية ضمن الحق المأمون للمغاربة جميعا..
نحن أمام خارطة تعيد تعبيد الطريق أمام التغطية الصحية عبر تجويد الحكامة الطبية، بما يضمن الوصول إلى أقصى نقطة في أفق الإصلاح، بتعدد الأبعاد المتوخى تحقيقها وهي حكامة لضبط النشاط في قطاع هام، تتراوح متطلباته ما بين الدواء والمتابعة الصحية وظروف الاستشفاء، وهو ما لا يخفى وجوده بين تضارب المصالح وقوتها في النسيج الصحي الوطني…
عنوان بارز لسطوة اللوبيات تتعلق بالدواء، ولعل في خلق أو إحداث الهيئة العليا للصحة وإحداث وكالة الأدوية والمنتجات الصحية وإحداث وكالة للدم ومشتقاته ؛ نوعا من الحكامة التي تعوض الخصاص الذي سجلته مؤسسات سابقة (أمام قوة المنتجين والمستوردين للمواد الصحية والصيدلية) وما يفترضه المعيش الصحي اليومي لا سيما في خدمات المراكز الصحية ، ومحاولة توطينها جهويا بشكل يضمن سهولة الوصول إليها.. بدون إغفال العنصر البشري واعتباره واسطة العقد الصحي الذي يربط بين الدولة والمجتمع. وتشكل ذلك في إعادة النظر في القانون المنظم للقطاع…
لا يخفى علينا الشح المسجل في الموارد البشرية العمومية أساسا في القطاع العام، ولعل القانون المراد إصلاحه وتحيينه سيكون من مهامه تقليص الخصاص في العناصر البشرية للاقتراب من المعدل الدولي، يستوجب ذلك الرفع من النسبة المئوية لميزانية الصحة في الناتج الداخلي الخام…
فالبلاغ في لغته لا يخفي حقيقة الأمر عندما يضع نصب أعينه، بالواضح، ضرورة »تثمين الموارد البشرية : لاسيما من خلال إحداث قانون الوظيفة الصحية، لتحفيز الرأسمال البشري بالقطاع العام؛ وتقليص الخصاص الحالي في الموارد البشرية وإصلاح نظام التكوين؛ وكذا الانفتاح على الكفاءات الطبية الأجنبية».. وهو في ذلك لا يضع أي خطوط حمراء، كانت سابقا ترفع في وجه الإصلاح، لتلبية حاجيات المغرب من الصحة…
قد ندرج الخطوة الجبارة ضمن سجل الدروس التي استخلصها عاهل البلاد، في لحظة صعبة من الجائحة وأعطاها البعد الذي تستحقه في سياسة البلاد وفي ترسانتها القانونية، من قبيل إعادة النظر في طبيعة الدولة المغربية .. الدولة الاجتماعية الاستراتيجية الساهرة على مقومات السيادة والمناعة الاجتماعية.
كما قد ندرجها في صلب اللحظة الحضارية التي دشنها العهد الجديد بالتجاوب مع كبريات القضايا في أصعب الظروف…
وبعد ذلك نقدر بأن الخطوة الحالية، والاستمرار في القرارات التأسيسية لمغرب اجتماعي جديد، ما كان لها أن تكون لولا إرادة سياسية لا تتذرع بصعوبة أوضاع الظرفية، ولا بظروف الحرب الدولية الحالية، ولا بتداعيات الحرب الغذائية على دول مثل دولتنا.. بل تجعلها فرصة أكثر منها مانعا سياسيا أو ماليا أونفسيا حتى، لاتخاذ القرارات الكبرى…
بالنسبة للمغاربة هذا الإصلاح الهائل عنوان معيشهم اليومي، بعد أن أصيب المرفق العمومي الصحي بالضمور، وتتابعت هجرات الأطباء ( نصف الخريجين حسب وزير الصحة ).. والجشع الرهيب الذي وجد المرضى المغاربة أنفسهم عرضة له في بعض مركز القطاع الخاص ومصحاته…
المشروع يكمل الخطاطة الاجتماعية الثورية، التي بدأت مع وصول قرابة 20 مليون مغربي للتغطية الصحية الإجبارية AMO. ….
التغطية قد تسمح للكثيرين بعدم التضحية بمداخلهم وبممتلكاتهم القليلة من أجل تطبيب أنفسهم وذويهم، وقد يسمح ولو نسبيا بتجاوز العقبة المتعلقة بأثمنة الأدوية.. ولكن يبقى أن توفير المرافقة الصحية بما يستجيب للحكامة الرشيدة وتأهيل القطاع وتثمين أدوار العنصر البشري، من أهم شروط استكمال هذه الثورة الاجتماعية الكبيرة !
القوة الجاذبة للإصلاح الشامل سيكون لها أثر لدى الأطباء العاملين في الخارج، وهو إعلان يقوي النزوع الوطني لدى الكثيرين الذين كانوا يرون في ظروف عمل العنصر البشري وفي محيطه، عناصر تنفير من العودة للعمل في بلادهم…
هنا مجهود مالي يتطلب تعبئة جديدة، وهو ما يطرح ضرورة البحث عن موارد هذا الإصلاح الكبير، لاسيما في جانب توفير البنيات الصحية، والتي يستوجبها التوطين الجهوي للإصلاح.. وفي شروط العمل وفي توفير الإصلاح الإداري والمرافق، مما يطرح قضية مساهمة النخب الجهوية والإدارات وأصحاب القرار الجهوي في تحقيق هذه القفزة الكبيرة.. كما أن هناك مجهودا تشريعيا ومؤسساتيا قد لا يتطلب القدر نفسه من المجهود المالي.. غير أن تجويده يستنفر الذكاء الجماعي والمصلحة العامة، وعدم الخضوع لتوازنات المصالح …
لقد فتح ملك البلاد المغرب لإصلاح عميق يمس جوهر المغرب الاجتماعي، ورهانه كبير على الخدمة الوطنية المشتركة بين كل المغاربة لتجويد ظروف تنزيله… وسيكون امتحانا لنا جميعا، للفرز بين المصلحة العامة وبين المصالح الفئوية …
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 16/07/2022