المغرب السياسي: أحذية اليوم بأثمنة الأمس؟ 2/2

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
وكان كافيا أيضا أن الحديث عن الهشاشات الكبرى، على غرار تدبير المصالحات الكبرى درءا للانفجارات الاجتماعية الكبرى، عبر شكل سياسي جديد للحكومة أعاد طرح توجس ما قبل دستوري حول احترام “المنهجية الديمقراطية”، تلك العبارة البليغة التي نحتها الفقيد عبد الرحمن اليوسفي، ليعبر عن وضع سياسي ضيق بين الدستور السابق وصلاحية الملك فيه وبين السياسة، وصلاحية صناديق الاقتراع فيها. وكان كافيا أن تصدر عن حزب حكومي دعوة إلى حكومة تحالف وطني، لكي تتحرّك الأغلبية والمعارضة لرفض الفكرة من الأصل، واعتبارها خروجا عن هذه المنهجية الديمقراطية التي دفع ثمنها غاليا الحزب الذي يدعو إلى الحكومة الوطنية: الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. والحال أن “الحكومة الوطنية” (الرئيس الفرنسي ماكرون يتحدث عن وفاق وطني) يمكن رفضها، وإن كانت من داخل المؤسسات الحزبية نفسها، من دون أن يصطخب النقاش ويقترب من التكفير الديمقراطي!
لماذا إذن المشهد بهذه الهشاشة، وما هي المضمرات الكامنة، في جرّ نقاش مستجد في السياسة إلى شبكة قراءة قديمة، تتيح الطمأنينة أكثر، عوض الذهاب إلى عمق الأشياء، وما قد تستوجبه الأزمات المقبلة؟ لا تبدو الحسابات واضحة في تقديم الأجوبة السابقة عن الأزمة، عن الأسئلة المتفرعة عن الأوضاع التي ستحُلُّ بعد الأزمة. ويكمن المضمر في التحليلات التي تدعو إلى تدبيرٍ مختلفٍ للمرحلة في العناصر التالية:
أولا: مركزية المؤسسة الملكية في إيجاد الجواب الأمني والعسكري والاقتصادي والاجتماعي، لتيسير حال الطوارئ والتماسك الاجتماعي، حيث إن سلطة أمير المؤمنين أقنعت المغاربة بإغلاق المساجد، وصدرت الفتوى باسم هذه الإمارة من خلال المجلس العلمي الأعلى، وسلطة رئاسة الأركان والقيادة العليا للقوات المسلحة أخرجت الجيش لضمان احترام حالة الطوارئ الصحية، كما وفرت السند الصحي من خلال الطب العسكري الذي راكم تجربة قوية في تدبير الأزمات داخليا وخارجيا، في إفريقيا والشرق الأوسط، من خلال المستشفيات الميدانية. ورئاسة الدولة استعملت سلطاتها ومركزيتها والكاريزما الشخصية، من أجل فتح باب التضامن الواسع وتدبير موارد الصندوق الخاص بكوفيد 19، لإيجاد حلول للمقاولات الصغرى والأجراء وضحايا توقيف عجلة الاقتصاد والعائلات الفقيرة… إلخ، في حين ظلت الحكومة، من بعيد، تدبر وقليلا ما تبادر.
ثانيا: يجول في منصّات التفكير السياسي في قيادات الأحزاب والهيئات سؤال بالكاد يتقدّم بقناع: أي شكل سياسي ومؤسساتي سيتخذه التكافل الوطني واللحمة الوطنية والعمل المشترك، من بعد، بشكل يجعل الجميع يقوم بترصيد هذا النجاح ورسملته، ولا يدخل منطق “المناقصات” السياسية التي تفيد هذا الحزب دون ذلك؟
ثالثا، ينبثق السؤال المنطقي: هذا المنجز الوطني، هل يحق للأحزاب الحاكمة، أو الأغلبية الحالية أن تسوغه لنفسها، وتذهب به إلى الانتخابات وحدها، وتنسبه إلى نفسها كليا، في وقت يعتبر ثمرة شراكة مجتمعية ومؤسساتية، تتجاوز التقسيم العادي للعمل داخل الحقل السياسي؟
رابعا: هشاشة الصورة التي تبعثها الحكومة نفسها بكل مكوناتها، ويتمثل هذا الضعف في أن الوزراء الذين تعود إليهم تدابير التخطيط والتنفيذ والمتابعة هم، في أصلهم أو في موقعهم، غير تابعين لأية هيئة سياسية، تشكل الحكومة، فالوزراء الأكثر حضورا في المتابعة هم وزيرا الداخلية والصحة، (غير منتميين حزبيا) ووزير المالية والوظيفة العمومية والاقتصاد (التحق بالجهاز التنفيذي عن طريق حزب التجمع الوطني للأحرار، بدون سابق انخراط سياسي يسبق دخوله الحكومة، والشيء نفسه بالنسبة لوزير الاقتصاد الرقمي الذي ينتسب إلى الحزب نفسه).
ويزداد ضغط الأسئلة، مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية التي تشغل بال السياسيين أكثر من المواطنين الذين يتحدثون عن القوت اليومي، واستقرار مناصب الشغل والمعيش اليومي والكلفة المقبلة للأزمة الاجتماعية. وعن هذه النقطة، تدر مراهنات الربح والخسارة بنسبة تفوق نسبة الجدوى أو القيمة المضافة للحقل السياسي، وتوضيح الخيارات التي ستضطر لها الدولة غدا. وجزء من الطبقة السياسية، يحسب الفرصة سانحة وصالحةً، لكي يتم تقديم موعد لترسيخ ضعف الحكومة والحزب الذي يقودها. وهناك من يرى أن الموعد يجب أن يظل في وقته، احتراما لدورية البرلمان، وأيضا لإنضاج محاكمة الحكمة. وفي الغالب، يتفق جزء من المعارضة مع جزء من الحكومة على إبقاء الوضع على ما هو عليه إلى حين هذا التاريخ.
وكان لافتا أن المعارضة اصطفت إلى جانب الحزب الذي يقود الحكومة ضد كل فكرةٍ سياسيةٍ قد تغير من المعطى الحالي. وكان لافتا أيضا أن المعارضة، في هذه النقطة بالذات، تشكل درعا سياسيا لرئيس الحكومة، إلى حين حلول موعد الانتخابات. كل هذه المعطيات لا يبدو أنها تعطي تبريرا معقولا للمواطن المغربي الذي لا يعرف بأي حطبٍ سيشعل نار موقده غدا، بقدر ما يبدو أننا أمام احتماء بأجوبة قديمة لأسئلة جديدة، تحرق الأعصاب والأدمغة، وأمام طريق ضبابه كثيف، تذكّرنا بعبارة بليغة للشاعر العُماني عبد الله الريامي، في أحد دواوينه يتحدث فيها عن “أحذية اليوم بأثمنة الأمس”… وما أمس الحاجة إلى لمسة شعرٍ تبدد هذا الضغط “الكورونو- سياسي”.
نشر في موقع «العربي الجديد»..
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 19/06/2020