المغرب والانتقال القيمي في الحكم… 2/2

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

لعل في قلب معضلة المغرب المجتمعية اليوم يوجد الارتقاء الاجتماعي، وإيجاد الطبقة الوسطى الضرورية للشروع في المرحلة الجديدة.
ولعل المردودية السياسية المباشرة لخطابٍ بمثل هذه الصرامة ستكون في جعله أداة فعل في التداول الشعبي، من لدن فئاتٍ واسعةٍ من المغاربة الذي سيجدون فيه صدىً لمخاوفهم ومطامحهم في الوقت نفسه، باعتبار أن الجدّية (لمْعقْول بالدارجة المغربية) جوهر قيمي في الاعتقاد العام، وهو أرضية الاشتراط في بناء العلاقات.
وبعيدا عن المنحى الوعظي في الدعوة إلى الجدّية، واستحضار مركزيتها في بناء النسيج السليم في المجتمع، نحن أمام قيمةٍ ارتبطت في الواقع بتقابلات عديدة: الجدّية كمقابل قيمي لمبدأ دستوري يتلخّص في ربط المسؤولية بالمحاسبة. والجدّية أيضا كأداء جماعي يستند إلى القيم في بناء الكيانات المجتمعية والأسرية، وأيضا الجدّية كمبدأ ناجح في ربط العلاقات الدولية، كما يتّضح من تعامل المغرب وأدواره في تجسير العلاقات مع الشركاء الدوليين، ولعل في قلب معضلة المغرب المجتمعية اليوم يوجد الارتقاء الاجتماعي، وإيجاد الطبقة الوسطى الضرورية للشروع في المرحلة الجديدة. ومن هنا إجبارية تفعيل بند الجدّية في الارتقاء الاجتماعي، بوضع الاستحقاق في قلب المسؤوليات: عوضا عن الانتهازية، والمحسوبية والزَّبونية والروابط الدموية وعلاقات القرب من السلطة ومن مركزها، والرشوة عوض دفاتر التحملات والتزلّف عوض الصرامة … إلخ. إننا أمام مهمّة تاريخية في الواقع، تُنذر بتعويض سلم قيم موضع تشكيكٍ انبنى على جعل الإفساد والمحسوبية والريع نمط حكم بنمط آخر للحكم يقوم على سلَّم قيم يقوم بدوره على الجدّية والعمل والثوابت الوطنية والأخلاقية والروحية.
انتقال قيمي في إدارة الحكم في المغرب، انتقال متراكب، قائم على مرحلة جديدة من بناء الدولة ـ الأمة الحديثة.
سيجد علماء السياسة في هذا السجل الأخلاقي، علاوة على آداب سلطانية إسلامية مغربية، أبعاداً أكثر حداثة، تتمثل في اللمسة الفيبيرية (نسبة إلى السوسيولوجي الألماني، ماكس فيبر) في تفكير الدولة المغربية. لقد شاهدنا ذلك من خلال المسح الوطني الشامل الذي تم موازاةً مع تحرير ما يُعرف في الأدبيات السياسية لمغرب محمد السادس بتقرير الخمسينية، والذي كان ثمرة جهود 150 مثقفا ومفكّرا وباحثا مغربيا حول نصف قرن من حكم الحسن الثاني، المغرب الذي سيرثه محمد السادس ويغيّره بشكل عميق، وهو المسح الذي شمل منظومة القيم، والتي نالت فيها الجدّية مرتبة مهمة (لمعقول المغربي) في بناء الحياة المشتركة. كما شاهدنا ذلك بعد سنوات عديدة في واحدٍ من الدروس الرمضانية التي يرأسها الملك محمد السادس باعتباره أميرا للمؤمنين، استحضر فيه وزير الأوقاف درس القيم الفيبيرية في بناء التنمية الاقتصادية (انظر في «العربي الجديد» مقالة الكاتب «ماكس فيبر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر»، 14/5/2019). ومن منظور محايث تحدّث عن «دينامية عقلنة السلوكات العملية، باعتبارها ميزة أساسية للحداثة».
في الواقع، لا يمكن أن نغفل الربط، الضمني والصريح، بين انطلاق محمد السادس من مقولة تنتمي إلى سجل الدولة الحديثة (إقامة دولة – أمة) والسجل الفيبيري في الأخلاق المرتبطة بالفعل بالدولة الأمة، المسؤولة عن قيادة التحديث والتنمية المجتمعية الشاملة، هذه الأخلاق مركَّزةً بالأساس في «أخلاق المسؤولية»، والتي يسميها في مكان آخر «أخلاق النجاح»، وهو ما يعني نشوء مصفوفة قيم متجدّدة، لدى الدولة والمحبة والمجتمع، مبنية على مفهوم أسمى من العلاقات الغرائزية والانتهازية والانتفاعية القائمة على نقيض المواطنة الجدّية!
ولعلّنا لن نبالغ في الحديث هنا عن انتقال قيمي في إدارة الحكم، انتقال متراكب، قائم على مرحلة جديدة من بناء الدولة الأمة الحديثة.

نشر بالعربي الجديد 2023/08/08

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 12/08/2023