بياضات رأي محكمة لاهاي، تقرير المصير.. والمصير المحتوم!

عبد الحميد جماهري

مرت 48 سنة ويومان على قرار محكمة العدل الدولية وإعلان الملك الحسن الثاني عن تنظيم المسيرة نحو الصحراء، موضوع الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية.
وقد تغيرت أشياء كثيرة على الأرض، كما أن المغرب عمل على ملء الكثير من بياضات تركها الرأي الاستشاري، في التباس متعمد كما يبدو، بوقائع ميدانية..
ولعل من المفيد العودة إلى بعض حيثيات الموضوع ومضمنات القرار لفهم ما حصل ووضع المسيرة ومواقف المغرب بعدها في سياقها الزمني السياسي الدولي والمحلي.
في أصل الأشياء:
اجتمعت العديد من العناصر كي يكون القرار الصادر عن المحكمة بنقط عديدة يلفها الغموض وقابلة للتأويل، بل تضمن بياضات عديدة دخلت منها الرواية الجزائرية،
ومن العناصر التي تم تسجيلها وقتها في أدبيات القضية الوطنية الأولى:
ـ يعود الالتباس المتعمد في جزء منه إلى كون أغلب القضاة في المحكمة الدولية كانوا ممثلين سابقين لبلدانهم في الأمم المتحدة، وسبق لهم أن دافعوا عن مبدأ تقرير المصير، وكانوا من الذين ناقشوا قضية الصحراء في 1964 أمام الجمعية العامة في الهيئة الأممية …وبالتالي فقد قدَّرت النخبة المغربية وقتها أن تقرير المصير مسألة بدهية في عقولهم وعبروا عنها علانية وما كان لهم أن يتراجعوا مخافة أن تُستعمل ضدهم.
وسجلت أدبيات القضية أيضا أن 3 قضاة من فرنسا وداهومي والهند أضافوا تصريحات تخصهم إلى قرار المحكمة، و5 قضاة من لبنان والسنغال والسويد وبريطانيا وإسبانيا وساحل العاج، عبروا عن آراء فردية، وتقدم قاض واحد من الأرجنتين بتصريح مضاد لرأي المحكمة…
وإلى ذلك كان في ديباجة القرار نوع من الحشو في الجواب.
لقد قضت المحكمة، في ردها على السؤالين المطروحين عليها، أن الصحراء لم تكن أرضا خلاء، وأنه لم تكن تربطها أي روابط قانونية مع أي دولة…
في التقدير الذي توحي به القراءة الأولى كان الجوابان منفصلين، والحال أن القول إن الصحراء لم تكن أرضا خلاء معناه، منطقيا وبدهيا، أنها كانت تحت سلطة دولة من الدول، وبالتالي فقد كان الجواب الأول كافيا، إذ أن الدولة التي كان المفروض أن تكون ذات صلة بها لن تكون سوى دولة المغرب…
الرأي الصادر يعترف بأن المغرب كان هو الدولة القائمة الوحيدة في شمال غرب إفريقيا، وبالتالي فإن الدولة التي يمكن أن تكون لها روابط مع الصحراء هي المغرب، فلا إسبانيا معنية، باعتبار أن السؤال يهم الفترة التاريخية السابقة عليها، أي قبل دخول الاستعمار الإسباني إلى المنطقة، ولا دولة غيرها.. وعليه فإن الجواب الثاني، حول الروابط ونوعيتها، هو تحصيل حاصل، ولا يعني دولة سواه…
يضاف إلى ذلك أن السؤال الذي طرحته الجمعية العامة للأمم المتحدة على محكمة العدل الدولية لم يذكر بتاتا »روابط السيادة«، بل «الروابط القانونية»… وهو فرق شاسع وكبير، ولعل في ذلك فتح لباب التأويل فتح بدوره الباب واسعا أمام دخول الخصوم…
وفي الواقع فإن المتابع اليوم لنقاشات اللجنة الرابعة والتحركات المناوئة لتاريخ المغرب وحقوقه، يجد بأن الأصل في الشر لم يتغير، وأن المخطط الجزائري ظل هو نفسه، ولم يتغير إلا من حيث التكتيكات المطلوبة:
ـ العمل دوليا من خلال تأويل مبدأ تقرير المصير …
ـ العمل داخليا من خلال تحضير الهياكل والأعوان الذين يطبقون المبدأ لصالح الجزائر…
بالنسبة للمغرب، كان الاختيار المبدئي هو الحاسم، وقتها كان من الممكن للمغرب أن يتعلل بوجود الجيش الإسباني (نحن نتكلم عن فترة ما قبل انسحابه ) ووجود اللاجئين، مما يعني استحالة تطبيق أي تأويل لمبدأ تقرير المصير يفيد الاستفتاء، ولكنه لم يمل إلى هذا التكتيك، بل جاء الخطاب الملكي المعلن عن المسيرة ليركز على حقيقتين:
ـ الانتصار للخيار المبدئي وهو كون الإقليم الصحراوي تراب مغربي لا نقاش فيه، والاستعداد لمواجهة كل محاولة يقوم بها الطامعون في عين المكان إذا اقتضى الأمر ذلك، وهو الموقف نفسه الذي يكرره الملك محمد السادس اليوم، بعد الكركرات، حيث خلال المحادثة الهاتفية التي جرت في 16 نونبر 2020، «جدد جلالة الملك التأكيد لغوتيريش على تشبث المغرب الراسخ بوقف إطلاق النار، »وبالحزم ذاته، يظل المغرب عازما تمام العزم على الرد، بأكبر قدر من الصرامة، وفي إطار الدفاع الشرعي، على أي تهديد لأمنه وطمأنينة مواطنيه«.
وهو ما تم طوال تاريخ الصراع المفتعل، بالرغم من قوس تم فتحه ما بين 1981 و1992 عندما قبل المغرب بالاستفتاء واستمرت الحرب ضده إلى أن جاء وقف إطلاق النار، وأعلنت الأمم المتحدة نفسها استحالة تطبيق الاستفتاء كشكل من أشكال التعبير الحر عن تقرير المصير…
«الدولة المعنية»، سنعود إلى موقف الجزائر الرافض حاليا لهذه العبارة، ونكتفي فقط بنوع من تاريخها الصغير في ردهات الأمم المتحدة، ومن ذلك أنه، في الفترة التي سبقت تحركات البوليساريو العسكرية بعد مسيرة تحرير أراضينا المغتصبة، رحم لله عمر بنجلون الذي رفع هاته العبارة الشهيرة في مؤتمر الاتحاد الإقليمي بمراكش في 20 يوليوز 75، قبل المسيرة). كانت البوليزاريو، وهي ترفع شعار التحرير والحرب الشعبية، تواجه سؤالا لا تجد له الجواب، وهو سؤال طرح عليها حول “موقفها من شعار »الدولة المعنية «الذي ترفعه الحكومة الجزائرية”؟
إلى ذلك ما زال السؤال الذي راج وقتها، تزامنا مع اجتماعات محكمة العدل ولجنة تقصي الحقائق التي بعثتها الأمم المتحدة إلى الصحراء وقت الاستعمار الإسباني يراوح مكانه، ويتجدد بأشكال متعددة: إذا كانت فكرة البوليساريو أن الصحراء كيان يشمل شمال موريتانيا وإقليم طرفاية (وادي الذهب والساقية الحمراء من بعد) ويضم ما تدعيه من وجود 900 ألف نسمة، فلماذا يحصر هذا الكيان الصحراوي المزعوم في المنطقة المشرفة على البحر وحدها بدون تندوف بالرغم من كون الساكنة هي نفسها؟
هذه التناقضات ما زالت الجزائر وصنيعتها تجرها إلى يوم الناس هذا… الفارق هو أن المغرب حوَّل تقرير المصير إلى .. مصير محتوم، مصير وحدوي شامل، كما أن البياضات التي انضافت سهوا أو عمدا إلى رأي محكمة لاهاي بخصوص الروابط السيادية والقانونية وطبيعة العلاقة تم ملؤها عمليا من خلال مد سلطة الدولة المغربية (منذ المسيرة) إلى التراب المغربي في الصحراء، ثم الارتقاء بالروابط الموجودة تاريخيا على أساس روحي، إلى معايير الدولة الوطنية كما تريدها المدارس الغربية في تصور الدولة المعاصرة…
إن السعي الجزائري نحو إحياء السياق العسكري هو في الواقع محاولة إحياء لمشروعها الأصلي الذي فشل وانتهى، وذلك بزرع وتحضير الهياكل الداخلية «والأعوان»، (بلغة الشهيد عمر بنجلون)، العاملين لمصالح الجزائر ضد المغرب.
واليوم، وقد حسم المغرب هذا الاحتمال، تسير الأمور نحو إعادة تدقيق ما سمي تقرير المصير بواسطة الاستفتاء، باعتباره حصان طروادة في حرب الجزائر ضد المغرب، والقطع مع »حرب التأويل الضارية« كما تنبأ بها الفقيد عبد الرحمان اليوسفي…

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 17/10/2023