تحالف الحضارات القاموس العاشق لفاس
عبد الحميد جماهري
بدا بديهيا أن تحتضن فاس، المنتدى العالمي 9 لتحالف الحضارات، هي الأرض الإفريقية، التي احتضنت قيم هذا التحالف، حتى قبل أن يوجَد، وفي رحابها تلاقحت أسس التعايش، بل شعر الحاضرون كما لو أنهم يعودون إليها، لكي يعودوا إلى نبع حقيقي، ومهد تاريخي واقعي كما يحلمون به أن يكون اليوم.. تمازج الديانات والروافد وتآخي الأعراف والسلالات الروحية، وكما قال الملك محمد السادس، أليست جامعة القرويين التي تحتضنها فاس هي أقدم جامعة في العالم؟
والعنوان الذي يحمله كل عالِم و«الوجهة التي كان يحج إليها العلماء المسلمون واليهود بل وحتى أحد البابوات، طلبا لاستكمال العلم والمعرفة؟» ولذلك فـ «مدينة فاس تجسد بكل تأكيد كل معاني التحالف والتلاقح الخصب بين الحضارات».
ومن الواضح أن المغرب من خلال احتضان فاس للمنتدى، أراد أن يبعث رسالة عميقة، لا تقف عند البعد الرمزي، بل رسالة تقول إنه يقدم من تاريخه الخاص المجسم العملي لما يريده قرابة 158 دولة من دول العالم، من وراء هذا التحالف، إنه البرهان بالواقع التاريخي والروحي الذي يحكم بلادا عميقة عاشت روحانيات وقيم حوار الحضارات بكل مكوناته، وتحمل جيناتها كل إرثه.
وعلى أرض فاس الافريقية، العربية الأسلامية الاندلسية،الأمازيغية، تقاطعت أنفاس كل الديانات لتستنشق هواء واحدا يبقيها على قيد الحياة والتعايش.
تعود البشرية إلى فاس، لتقرأ نفسها ولتتذكر أنها كانت قادرة على العيش المشترك. ولتحاكم بقوة المشترك الأصلي، الذي تجسد في حاضرة مولاي ادريس زرهون «الكم الهائل من المخاطر الذي لم يسبق للعيش المشترك أن عاشه» كما قال الملك محمد السادس، في الرسالة التي وجهها إلى منتدى تحالف الحضارات.
الواقع أن روح فاس حضرت في كل الكلمات، لكل الوفود، وبكل اللغات، ومن ممثل الأمم المتحدة السامي للتحالف الإسباني، ووزير الخارجية السابق، ومبعوث السلام في الشرق الأوسط سابقا، ميغيل أنخيل موراتينوس الذي بدا محتفيا بوجوده بفاس، إلى الأمين العام للامم المتحدة أنطونيو غوتيريس، الذي وجد التعبير الملائم وهو يهنئ المنظمين على اختيار فاس. قال غوتيريس: «إنها المكان المثالي للتفكير في حالة العالم». وبدت العاصمة الروحية للمملكة محرابا للبشرية، لكي تتأمل أعطابها، فاس مفتاح اللغة المشترك لكل أبناء البشرية، بكل طبقات بلاغتهم وبكل هواجسهم. هي المشترك في التحالف، ولكن أيضا في الذاكرة الجمعية للناس، التي يحلمون بها.
كاتبة الدولة الإسبانية في الشؤون الخارجية، أنجيليس مورينوباو: «فاس أكبر من اختيار صائب»، بل «أحسن من يجسد شعار التحالف وملتقاه: نحو إنسانية واحدة» والتي تمر عبر «العيش المشترك». هكذا تحولت فاس الهندسة إلى روح، وفاس العناصر الطبيعية إلى مزاج حضاري تنوه به ممثليات العالم من الجهات الأربع.
وهي أيضا «سماء الميعاد»، لأجيال البشر الشباب لا سيما في القارة السمراء التي تضم «أكبر جيل من الشبان، في البشرية اليوم».
فاس هي أيضا، جوهر الثقافة، كما سماها رئيس الحكومة السابق الإسباني خوصي لويس ثاباطيرو وساواها بـ «الثقافة والتاريخ ومكان الانبعاث الروحي»، ومهد الكلمة، المادة الأولية للحوار بين الحضارات، التي قال عنها ثاباطيرو: «من جامعتها خرجت كل الجامعات».
كان صدى الاسم، يتردد في كل الحناجر، وبكل الدلالات، سواء في الكلمات الرسمية، التي ضمت رسالة الملك، وكلمة موراتينوس وغوتيريس ووزير خارجية تركيا وكاتبة الدولة في الخارجية الإسبانية، أو عندما تحدثت «أصوات الحكماء» و«مسارات السلام»، وفي الفقرة الثانية من الافتتاح، وهي فقرة ذكية وبالغة المعنى، باعتبار أنها تعطي الفرصة لأسماء بتجارب متباينة، تعبر عن تنوعها في المقاربة، تحدثت خلال الفترة السينغالية أميناتاتوري، نائبة الرئيس، باسم حضارة «إفريقيا جنوب الصحراء»، وتحدث خلالها ثاباطيرو، وممثلة هنغاريا، أو شيخ الاسلام شكر الأدربيجاني وعمرو موسى، أو وزير الدفاع الإكواتوري، سيرينا فرناندو، والاميرة الأردنية ريم علي، باسم مؤسسة «أناليند» أو الرئيس البوسني السابق ميلادن إيفانتش.
وكما تكرر الاسم بالتماعاته الإنسانية في حفل اختتام الجلسة الأولى، وعاد غوتيريس مجددا الى القاموس العاشق لمدينة فاس، طريق ابن خلدون الى العالمية وعلم الاجتماع، وفاس بثلاثيتها الاسلامية، اليهودية، المسيحية التي تستحق أن تكون في قلب الحضارات وفي كل التزاماتنا.
وخوصي مانويل ألباريس، الوزير الاسباني للخارجية الذي التحق في النهاية، أجاد الحديث عن «بيت الحضارات، فاس، وملتقاها ومنتجع التعايش الثقافي».
في الواقع لم تكن العبارات مجرد تمرين عاطفي استوجبه دليل اللياقة المعتادة، بل كانت انعكاسا لحالة استرجاع وجدانية لما تمثله فاس، وكذلك حالة انفعال روحي تستبق روح إعلان فاس، وما تحمله من آمال فعلية (انظر الإعلان).
المتدخلون، من رؤساء حكومات ووزراء خارجية ونوابهم، بدورهم أغنوا هذا القاموس العاشق لمدينة فاس، تباهوا في وصفها: «عاصمة الحكمة في العالم» (الوزير الأول لمونتينيغرو دريتان أبازوفيتش)، «مدينة يحلو فيها حديث الحضارات، مدينة الإيمان، والسكينة والقيروان، حيث لا مكان أفضل منها للحديث عن حوار الحضارات» (وزيرة خارجية السينغال)، «فاس العريقة حيث مازال عبق التاريخ وشذى المعرفة يعم العالم» (وزير خارجية موريتانيا).
«مدينة اختيارها صائب لمن يتجه نحو الحوار» (وزير خارجية الرأس الاخضر)، «فاس مدينة التنوير، لو كانت فاس هي النموذج الذي تبنى عليه المدن، كيف كان سيكون العالم يا ترى» (كما قالت وزيرة الثقافة الإماراتية نورة الكعبي).
من يبدع أفضل في فاس التي تستحق أحسن من قيل.
إلى جانب القاموس العاشق الذي خلق مناخا طيبا لحوار الحضارات وتمثله، كان العمل المنضبط والحضور الكبير، عربون نجاح ولا شك لحدث دولي، حضاري بكل معنى الكلمة.
(يتبع)
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 24/11/2022