تداعيات عن العهد الجديد : التحول الاستراتيجي في الصحراء والندية في الديبلوماسية.. (4)

عبد الحميد جماهري

ليس في نيتنا القيام بجرد لكل القرارات والمسارات والمواقف التي راكمتها بلادنا في ملف صحرائنا الوطنية، بل نسعى إلى رصد التحولات العميقة التي تجعل المغرب قادرا على تفكيك المؤامرة التي يتعرض لها منذ نصف قرن. نريد الذهاب إلى العمق وذلك من خلال عناوين استراتيجية :
-3 لعل التحول الأكبر، والذي تجاوز السقف المطلوب ربما في قضية الصحراء هو الاعتراف الأمريكي الذي شكل عنصرا جيوسياسيا قلب المعادلات، ولعله بتفوقه جعل الدعم الفرنسي المعتاد للحكم الذاتي في حدوده الدنيا دون المستوى، كما كان ضربة قدم في خلية النحل الكبرى التي استسلمت لها المنطقة ومن ورائها الأمم المتحدة عقودا طويلة بالقبول بالوضع: لم يعد من المقبول الاكتفاء بدعم الحكم الذاتي بدون ترتيب مواقف سياسية وديبلوماسية تسير معه في نفس الهدف أي بالسيادة على التراب المغربي..كما أن المغرب تحرر، من جهة ثانية، من الضغط الذي كانت تمارسه باريس، في علاقتها غير المتوازنة بينه وبين الجزائر من أجل فرض سطوتها على نظام الجارة الشرقية.
وعندما تحرر المغرب من هذا الغضب الابتزازي شعرت فرنسا بعد أن فقدت ورقة كبيرة في التفاوض مع الجيران، والذين كانت تضغط بالمغرب عليهم!
وكون الدولة الحاملة للقلم تعترف بالسيادة وتحافظ على الموقف( آخر تصريح للسفيرة الأمريكية في الجزائر تحدثت عن قرار تاريخي ) فذلك لم يفتح باب للمساومات من طرف مناوئيها، ومنهم الصين وروسيا. لعل المغرب. عرف كيف يدبر موقعه مع العالم المتعدد الأقطاب..
( وهو ما تعزز بقرار حوالي 30 دولة عربية وإفريقية ومن أمريكا وآسيا فتح تمثيليات لها في العيون والداخلة).

سردية تنتصر على إيديولوجيا النفي
لعل اطمئنان الدولة الجزائرية إلى سرْديتها التي تحتفل بها كدولة لا تُدين بشيء للتاريخ قد بدأ يتراجع، كما يتضح من خلال تراجع مساندة أطروحاتها حول حدود المغرب وجغرافيته داخل الدول التي تشكل الأمم المتحدة ( مناقشات اللجنة 24 خصوصا) …
نكتشف من مصاحبة عبد الله العروي في كتابه عن »»دفاتر كوفيد«« وفي الشق المتعلق بالتطورات التي تعرفها علاقتنا بنخبة الحكم في الجارة الشرقية أن من الأساطير المؤسسة لخطاب الجزائر »الثورية« تركيزها على حداثة عهدها بالتاريخ.
وما قد يعتبره الآخرون نقصا تاريخيا في حِمْضها النووي تعتبره هي ميزة وورقة رابحة. ولعل المؤرخ يذهب أبعد من ذلك عندما يجزم بأن تقديمها لنفسها باعتبارها وليدة المرحلة الاستعمارية يعطيها نوعا من القرابة مع دول كثيرة في العالم، ولا سيما في القارة الإفريقية التي ولدت بفعل المقص الاستعماري.

الندية والدبلوماسية بالصدمة
تحتاج الديبلوماسية، دوما، إلى العودة إلى مقاعد التاريخ، لدراسة التطورات التي تطال معادلات العلاقات الدولية. والتاريخ هو ذاكرة الدولة، بتعبير هنري كيسنجر.
ومنذ ثلاث سنوات، بالتحديد في 11 مايو 2021، طرح الكثيرون سؤالا ملتهبا وكان العنوان الأبرز فيه: هل يمكن للمغرب أن «يتحمّل» توترين في لحظة واحدة مع دولتين مهمتين له في مجاله الحيوي هما إسبانيا وألمانيا ؟ يردّ كثيرون بأنّه سبق للمغرب أن ردّ، بصرامة وقوة، على مواقف دول أخرى، لا تقل ريادة في عالم اليوم، عندما تعلق الأمر بمصالحه الترابية…
وقد كانت للمغرب مواقف مع دول كبرى سابقاً لا تقل حدّة، وربما أكثر حدّة، عندما تعلق الأمر بالمقوّمات الذاتية للسيادة، سواء عند عتبة الوحدة الترابية أو عند غيرها من عناوين السيادة. ويذكر المغاربة «خطاب المسيرة» في سنة 2014 في التوجه بحزم إلى أمريكا. ويتابعون أطوار العلاقة مع فرنسا، ولعل العديد من كبار السن ومن الشغوفين بالتاريخ أو الذين يتمحصون العلاقات الدولية للمغرب وتفاصيل الترابط داخل الاستقلالية التي طبعت علاقتنا معا، رأوا في ما يحدث فصولا شبيهة بوقفة محمد الخامس في وجه العنجهية الفرنسية.
كل هذا جعل للمغرب قدرة الهجوم والمبادرة.
ولم يبن كل علاقاته على هذا النحو، بل فتح الباب أيضا أمام تشاركية من نوع آخر سمح بها التعدد القطبي في العلاقات الدولية.
هناك كتاب التاريخ الذي يحفظ ما يقع لنا، وسيحفظ اسم محمد السادس في باب السيادة والحفاظ على الوحدة وبناء المغرب المشع دوليا. عبر علاقات »بينشخصية« يلعب فيها دوره كرئيس دولة وأمير للمؤمنين في العلاقات التي ينسجها!

توسيع التراب الوطني:
يبدو العنوان نوعا ما غريبا، لكن الواضح أن المغرب يبحث عن »الكثافة« التاريخية لديبلوماسيته،
فهو قام بواسطة إمارة المؤمنين بتوسيع التراب الروحي للمغرب في وسط إفريقيا، كما عمل على تنشيط الروابط والشبكات الموجودة منذ القرن 19، وأيام كان سلطان المغرب هو سلطان المغرب والسودان. ومن ذلك العلاقة التي نسجها مع الدول في غرب إفريقيا ثم بالمبادرات المتعددة، اقتصاديا وسياسيا وتجاريا، إضافة إلى التشبيك الروحي الذي تم.
ومن العناصر الجديدة كذلك في هذا التوسيع الرمزي للتراب الوطني تفعيل العلائق مع مغاربة العالم، الذين صاروا جهته 13، بما يعنيه ذلك من امتداد مجالي واستيعاب لتنوع وتعددية العالم واستيراده جسديا وفي السلوك. لقد تبين بالفعل أن مغاربة العالم( وهم قرابة واحد من أصل ثمانية مغاربة، حاليا، .في انتظار ما سيكشف عنه الإحصاء…) طاقة كبرى ثقافيا كما ماديا ( ليست التحويلات. فقبل المساهمة من خلال اللغات وامتدادات القوة الناعمة والحضور في لحظات التفكير الجماعي كما في النموذج التنموي …إلخ ).

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 26/07/2024