تراها ذكريات شخصية حقا عن الموت وقبله بقليل؟

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
تراجيدية الفقيد بوعبيد العديدة، التي صقلت مثاليته (إذا صح التعبير)، تجدها في مستويات عديدة..
في لحظات ما، كان التوصيف الدقيق، دليلا على التجرد الأخلاقي الكبير..ودليلا على وجود عبد الرحيم في المنطقة الصعبة، بين الملكية، والقيادة الوطنية والصداقة النضالية..
بين الكيان وضده، بين الأطروحة وغيرها..وفي مذكراته، كان يهمني كيف يربط الفقيد بين آراء رفاقه، وبين الواقعية والرؤية البعيدة المدى والتواضع النضالي!
في تفاصيل المذكرات كنت أبحث عن الشهداء، وعن المهدي بالذات وعن طبيعة علاقته، بل نقاشاته مع الشهيد:
لغتها، نبرتها، اختلافها أو اتفاقها مع لغة المهدي… إلخ.
وقد وجدتها في حديث متبادل مع بن بركة حول المؤسسات.
يقول الفقيد: «.. استأذنا أصدقاءنا للعودة إلى باريس، عبر الطريق السيار غربا، كنت جالسا إلى جانب المهدي بن بركة الذي كان يسوق السيارة، فيما جلس المهدي العلوي في المقاعد الخلفية، استأنفنا مناقشاتنا اللانهائية حول السبل والوسائل الكفيلة بإقرار نظام ديمقراطي.
وجهة نظري كانت هي أن التوافق هو السبيل الوحيد في سياق الظرفية الداخلية المغربية. قلت: إن الوقوف عند شرط المجلس الاستشاري المغربي، المنتخب عبر الاقتراع السري، سيكون خطأ فادحا، فليس بمقدورنا أن نفرض على ملك يحظى بشعبية، حظي بمباركة مجموع الشعب، لدى عودته من المنفى، أن يسلم الملكية إلى مجلس منتخب، حتى ولو انتخب ديمقراطيا. لن يسعه أبدا القبول بذلك… أجابني المهدي – فات الأوان، لن يمكننا العودة إلى الوراء… وعلى كل، حاول أن تحدث المحجوب والاتحاد المغربي للشغل في الأمر.. مافات أوانه هو أن نريد إعادة صناعة التاريخ من جديد. فعندما تضيع الفرصة، يكون من غير المجدي السعي لاستعادتها، سيكون ذلك بالضبط سقوط في فخ التاريخ… أية ايديولوجيا؟ أي رؤية كانت لدى المقاومين والنقابيين وحزب الاستقلال. إلخ في السنوات من 1952 إلى 1955 لاشيء، فالشعار الوحيد كان هو عودة محمد الخامس، وحتى الاستقلال الوطني وضع في المرتبة من بعد.. لا أعتقد في الوقت الراهن، يجب أن نأخذ من جديد بفكرة الغرفة الدستورية، يمكننا أن نتفاوض بخصوص تشكيلها وسلطاتها، لكن تبدو لي تسوية من شأنها أن تخرجنا من المأزق.. بيد أن مواصلة النضال من أجل مجلس تأسيسي، مع ترك المشاكل الأساسية للاقتصاد والقضايا الاجتماعية والثقافية جانبا، دون الحديث عن القواعد الأجنبية أو سياسة اللا- تبعية يكون المجلس التأسيسي بلوكاج (انحسارا)… فشئنا أم أبينا ذلك، فإن السلطة بين يدي الملكية… هل تعتقد أن الاتحاد المغربي للشغل وقادته قادرون على تعبئة وتحريك الطبقة العاملة من أجل المجلس التأسيسي؟ أبدا، إن تفكيرهم هو ترك الوضع يتأزم، ومن هذا التأزيم سيولد النور ويأتي يوم الثورة الأغر! إنه الفراغ، اللاشيء. ظل المهدي صامتا، والمهدي الآخر، التزم بدوره الصمت متجنبا التدخل بالأحرى. يا مهدي، ذلك المجلس الاستشاري الذي ترأسته قرابة سنتين… هاهو بالرغم من كل ذلك، حرك الحياة العامة ونشطها. فقد نوقش المخطط فيه، كما تم ضمنه وداخله تفسير وتوضيح اختيارات والتصويت على توصيات حول مشاكل وطنية مهمة.. ومع ذلك تعرض للانتقادات واعتبر هيئة وهمية.. والنتيجة في عمومها كانت إيجابية. ولعل مجلسا يتم هذه المرة انتخابه في إطار دستور مهيأ باتفاق مع الملك، يمكن أن يكون له دور بمثل نفس الأهمية أو أكثر.. وعليه، فاعتقد أنه يمكن أن يشكل إطارا ديمقراطيا، حتى ولو لم تكن ديمقراطية كاملة، للشروع في النضال من أجل التنمية.. وأخيرا، (قلت) إن أسوأ وضع يمكنه أن يحدث هو رحيل أو إبعاد محمد الخامس… لم أدرك ماهو السبب الذي دفعني إلى التعبير عن هذا الإحساس (الحدس) والحال أنني كنت في باريس، طيلة أيام عديدة، ولم أكن أعرف أن محمد الخامس سيخضع لعملية جراحية في اليوم ذاته. واصلنا طريقنا باتجاه باريس، وحوالي الساعة الخامسة والنصف آو السادسة مساء، أدار المهدي زر المذياع للاستماع إلى آخر الأخبار، وكان أول خبر يبث هو وفاة محمد الخامس، جراء عملية بسيطة، أجريت له في بداية زوال ذلك اليوم. خيم علينا الصمت وتسمرنا في أماكننا ثم، سألني المهدي بن بركة هل كنت على علم بأنه سيجري عملية جراحية، اليوم؟ أجبته: كلا!
وبدأت صفحة جديدة في تاريخ بلادنا».
كان النقاش واضحا مؤسسا على: – شعبية الملك التي لا يمكن أن يفرط فيها: «فشئنا أم أبينا ذلك، فإن السلطة بين يدي الملكية»…
– لا جدوى المجلس التأسيسي، والذي كان النقاش حوله قد عاد في مناسبة ربيع 2011، في الوقت الذي يكون فيه اليسار وقوى التحديث في لحظة ضعف..
– التوافق، الناجم عن التفاوض مع الملكية عوض الرهان والرهان المضاد..
– اللغة الواضحة في الحديث مع الشهيد المهدي، مع احترام المواقف…
– الحديث عن القيادة في الاتحاد الوطني والفراغ الاديولوجي وغياب المشروع العام.
وكل ما سبق قوله، وغيره، يرسم لنا خارطة للعزلة التراجيدية التي وجد عبد الرحيم نفسه فيها في لحظات صعبة من تاريخ البلاد.
وكان عليه أن يظل منسجما مع نفسه، في عدم الخطأ بخصوص الخصم وإضعاف القوة الحاملة للتغيير، حتى ولو كان الخلاف جذريا.
من هنا تدخل التراجيديا الإغريقية في حياة عبد الرحيم التي «مغربَها»، بأن صار مرتبطا بالأشياء السامية لا بالغرائز.
***
هذا الرجل
قال صديقي، بغير قليل من المرارة:
أعطانا ماضينا الجميل
ترى
هل سنعطيه
مستقبلنا الزاهر؟
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 13/01/2018