تقرير المجلس الأعلى للحسابات: 2018/2019 الثابت والمتحول 2/1

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
أثار تقرير المجلس الأعلى للحسابات، وليس تقرير جطو، كما علمنا الاستسهال الإعلامي أن نسميه، ردود فعل متباينة.
وإذا كان البعض منه متوقعا، سواء في درجة الرفض أو في درجة التأنيب، فإن الجوهر يظل قائما وسليما، ولا بد منه في تدبير مرحلة من أخطر مراحل البلاد، بمنطوق الخطب الملكية المتتالية…
والاهتمام والتفاعل، من زاوية السأم حينا والغضب أحيانا كثيرة، جاءا لأن القرارات التي يصدرها والتقارير التي يذبجها المجلس أصبح لها ما بعدها سياسيا ووظيفيا وتدبيريا.
لنتذكر ..
في الشهر التاسع، شتنبر من السنة الماضية، كان التقرير قد أثار متابعة غير مسبوقة…
لنتذكر أيضا ما كتبناه وقتها، كل في زاويته:
«أولا، ارتبط اسم المجلس، ورئيسه، بقرارات سياسية هامة، ولعل أهمها قرارات الإعفاء التي طالت الموجة الأولى من المسؤولين، باعتماد تقارير المجلس كقاعدة لربط المسؤولية بالمحاسبة، هذا المبدأ الدستوري، الذي أصبح له مدلول ملموس، وجسم يحمله، من جهة القرار،… لاسيما وأنه خلق زلزالا غير مسبوق، ربما فاقت طبيعته ودرجته … ما قبله من قرارات الإعفاء لأنه مسنود بمبدأ دستوري.. ثانيا، لم يكن التقرير فقط، أداة في الزلزال السياسي، والذي مس زعماء أحزاب ووزراء، بل إنه كان إعلانا رسميا عن فشل منظومة الحكامة نفسها في قطاعات تتوزع المسؤولية فيها بين المسؤولية الحزبية ومسؤولية الدولة التقنوقراطية.. وما لا يمكن القفز فوقه هو هذا الفشل المرقم، الفشل الذي نعنونه تاره بالاختلالات وتارة بالتعثر وأحيانا كثيرة بالتبذير اللامبرر للمال العام.. وهنا لا يمكن أن يسلم أي كيان من كيانات الدولة، بمعناها الواسع، من ضرورة إعادة النظر في سيرته التدبيرية».
وفي هذه السنة، ما زالت نفس الأجواء ترمي بظلالها على الكثير من القادة الحزبيين والسياسيين المعنيين بمشاريع الدولة والمجتمع.
هناك شعور بأن المنصب الحزبي أو الحجم الوزاري والارتباط بدواليب الدولة، لا يعفي من سيوف قضاة المجلس، ولا سيما تبعات قراراتهم المالية. وهو تحول جوهري طالما حلم به المغاربة: أي تحول القضاء المالي إلى قوة تخيف، ويكون لها ما بعدها، بالرغم من محدوديته..
لنتذكر ثانيا أن الثابت المرافق لإصدار التقارير هو ، كما حدث في السنة الماضية تقريبا بتشابه كبير، تزامن النشر مع لحظة نقد عميقة وذاتية تقوم بها الدولة لنفسها، وهذه المرة بدرجة أكبر، يتوافق مع البحث عن شعار للمرحلة الجديدة، في التأهيل والإقلاع الشامل.
لا أحد يتحصن وراء ما يتحصن به: و»لذلك يتزامن الاهتمام البالغ – وقد يكون مبالغا فيه في بعض الجوانب- مع لحظة وطنية كبرى تتميز بالنقد الذاتي، والنقد الشامل الذي يخضع الكيان الوطني نفسه له. وبمعنى هناك دعوة صريحة إلى إعادة النظر في النموذج التنموي، وإعادة النظر في مواثيق الاستثمار وإعادة النظر في المنظومة التربوية، وفي معنى الالتزام المواطن، للأفراد والجماعات،.. ويمكن أن يكون هذا التزامن سقفا إدراكيا للصورة التي تريد الدولة أن تعطيها لنفسها، بما يجعلها راضية عن نفسها…».
والاهتمام نابع أيضا من قوة أشياء، لها بعد دولي، بمعنى اعتبار السلامة المالية للدولة معيارا عميقا في الحكم على ديموقراطيتها..
وكما قلنا في السابق، فاليوم «تهب على العالم ريح تلخص النقد الديموقراطي، بل الوجود الديموقراطي نفسه في النزاهة ومراقبة المال العام، ففي فرنسا كما في الولايات المتحدة وألمانيا وغيرها أصبحت الأزمة الأخلاقية للديموقراطيات الكبرى مرتبطة بالأزمات المالية، ومواجهتها بنجاعة الدفاع عن التدبير السليم والحكامة المالية…». هناك في ردود الفعل السياسية، بله السياسوية، ما لا يستقيم مع المراد من دستور 2011.
فالسمو الدستوري الذي يتمتع به المجلس في المراقبة المالية، قد يجعل منه قوة حقيقية مؤسساتية، ويعطي للتقارير معنى معينا يكتسب قوة سياسية لا تغيب عن النظر…
وقد يكون علينا أن نحترس ونحتاط من أية تجاوزات، لكن لا يمكن أن نعيد المجلس إلى غمده، كلما تم المس بسياسة هذا القطاع أو ذاك.
والملاحظ أن التقرير لا يتعلق فقط بالمؤسسات السياسية، أو الحزبية بل هو يوجد في المجال الصعب لالتقاء السياسي والتقنوقراطي الحكيم..
وهو بذلك، يقلب في أوراق الكفاءات التي تدبر الدواليب العميقة للدولة..
ويكفي أن نلقي بعين فاحصة على المؤسسات والمنشآت التي تناولها القضاة في تقاريرهم، لكي نكتشف حجم «الكفاءات» التي تطرح عليها الأسئلة في الحكامة الجيدة.
يتبع
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 24/09/2019