ثريا العلوي: فنانة حررت خيالنا السينمائي وطاقتنا الفنية

في الإعجاب الأول، كنت أستشهد بكلمات النقاد الاجتماعيين للسينما، لأقترب من البورتريه، الخاص بالفنانة ثريا العلوي..
في الإعجاب الذي تلاه، لم أعد أستعير سوى أدوارها لأستمتع برهافة الفنانة نفسِها، التي تشبه رهافة أغنية لنعيمة سميح.
وعرفت دوما أنه لأكتب عن ثريا العلوي، يجب أن يكون لديَّ ألف مجسة من مجسات كائنات البحار العميقة، لأحيط باتساع موهبتها بين الأفلام السينمائية والتلفزيونية والمسرحيات والسيتكومات، والتي تجعل من مسيرتها الفنية مائدة مربعة، مثل الجهات الأربع.
ولأكتب، علي أن أريق حبرا كثيرا، وورقا صقيلا عن ثلاثة عقود من العطاء جمع بين الغزارة وبين الجودة والرفعة..
لهذا أختبيء في الاحتفاء بها من خلال دورين اثنين وقَطْعٍ من نهار سيرتها.
كانت الطالبة ثريا المزدادة بالبيضاء، القادمة إليها من مفازات رحم أمازيغي جنوبي من ورزازات، تحلم بمعالجة المشاهدين كطبيبة نفسية، لكن عوض أن تستدعيهم إلى مصحتها، قادتهم إلى قاعات السينما والمسرح، هناك كانوا يتمددون على مقاعدهم ليتفحصوا بعين المعالَج ولذة المتفرج أمراضهم الشخصية والجماعية.. من كلية الطب إلى معهد الفن المسرحي، كان الانتقال شبه سحري، ونحن اليوم نحدُس ببداهة عاطفية بأن الحب هو الذي غير مسارها، عن طريق المخرج الزوج لاحقا، الصديق المثقف نوفل براوي..
راقني ما ستقوله هي نفسها في حوار صحافي عن التواشج بين الفن والطب النفسي. وجدت أن ثمة علاقة وطيدة جدا بين التمثيل وعلم النفس، فتشخيص الأدوار هو اشتغال على النفس، وعلى الذات الإنسانية، وطرح لمجموعة تساؤلات مع النفس وذلك بالدخول في مجال معها ومع اللاوعي. عند أداء الدور نستحضر الماضي ونهيئ للشخصية المتقمصة مرجعية وتاريخا، ثم أيضا بناء المصداقية التي بها إقناع المتلقي حتى لا يتحول الممثل إلى آلة بلا إحساس تقدم جملا منطوقة».
في المشهد الأول،
اكتشفها النقد المجتمعي في فيلم «نساء.. ونساء» للمخرج سعد الشرايبي، في دور غيثة المركب. ظاهره رومانسي تعبر عنه بقولة راسخة في ذهني تصف بها الشريك «عندما ينطق تصمت الكتب»، لكن في باطنه العذاب. في هذا الدور لعبت المغربية المترددة التي تحمل قدرها كلعنة مستحبة.. ثم فجأة تتراقص الأقدار المركبة في أدائها لغيثة وهي تصرح «قتلتو…». صرختها في الثلاثين دقيقة الأولى من الفيلم تظل عالقة في ذاكرة المشاهدين، الذين امتلكوا الحظ في أن يكونوا جيلا استمع بصوتها العالي، لما كان المجتمع يفكر به في صمت»…
بأصولها الجنوبية الأمازيغية وترف الدوخة في ميتروبول الدار البيضاء، كانت ثريا من جيل تكوَّن وارتقى بالتشخيص والتمثيل، من براعة عفوية وموهبة خام، إلى قواعد المهنية، والحرفية السعيدة بذاتها وتكوينها الاكاديمي العميق.
استطاعت ثريا الحصول على ثقة كبار المخرجين والمهنيين في مغربنا السينمائي، منذ عملها الأول مع فريدة بليزيد وحكيم نوري إلى يوم الناس هذا.
فهي قد نوَّعت من أدائها بحرفية اعترفت بها عواصم سينمائية عالية الكعب، وتوجتها لذلك.. وطيلة ثلاثة عقود توسطتها بقامة فنية وعنفوان. بالنسبة للمغاربة الذين أسبغوا عليها سلامهم الداخلي وسموها حمامة˜ سينماهم، كانت هي الفنانة التي خبأت في عينيها كل الأفراح المهدورة، وفي أدائها كل الأجراس الصامتة لواقع متعب للكيان المغربي.
لعلي أعترف بأنها من النادرين والنادرات الذين مَغْربوا خيالي وخيال جيلي السينمائي وحرروا عاطفتنا الفنية بالموهبة، من استيلاب السينما العالمية..
في كل أدوارها، تصل لحظة معينة من الفيلم لا نعود نرى فيها الفنانة ثريا العلوي،بل نرى شخصيتها..
وهنا في المشهد الثاني تعملقت ثريا، في دور «يزة، كما لو أن القصة وجدت لها خصيصا والفيلم كله، «سينما الوان وومان شو»
يفتتح المشهد على زوجة رجل يسكن البيضاء هي «يزة»، والعجوز والدته. في بقاع يصلها العالم الخارجي بالتقسيط أو عبر الشاحنات.
تبدأ تداخلات الفضاء البيضاوي مع فضاء القرية البعيدة، بساطة يزة˜ وانغلاقها على قيم المجتمع مع سميرة الضائعة في ضجيج اللذة والبؤس في العاصمة الاقتصادية.
عالمان يتقاطعان فوق جسد «سميرة والأخريات»، في حين تحلم يزة باللقاء مع الحسين (الزوج) والعودة بالدواء.
تخلق ثريا العلوي شخصية «يزة»، بقامة عالية، من خلال المواصفات التجسيدية، التمرين اللغوي على اللكنة، المفارقات…، كلها بنت الشخصية، وأيضا خلقت أجواء عميقة من الفرجة وقد كانت بساطة «يزة» فيه صعبة للغاية في عالم معقد..
ما بين الكوميديا، والدراما؛ الواقعي والقريب من الواقع، توزعت موهبتها كل الأدوار التي لعبتها، وتمتعت بمشاهدتها رفقة مغاربة كثيرين..
اسمحوا لي ان اختم بالتفاتة إلى دورها في أول فيلم تلفزيوني مغربي ناطق بأمازيغية الريف «إمزورن».
خيرة امرأة عاقر، وترتبط بحب قوي مع زوجها ميمون الذي يشتغل خارج المغرب. لا أحد شاهد الفيلم وسلمت ذاكرته من نداءاتها الباكية.
آآآميمون، ميمونينو، ربي ايحفظم
ماني اكاااان اسيدا ربي
الكلمة التقديمية في حفل تكريم الفنانة الكبيرة في اختتام مهرجان سلا