جزء من الظاهر والخفي في عودة الروح بين المغرب وموريتانيا

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

هناك لحظات في السياسة، يكون الاستثنائي فيها، هو العودة إلى الأصل الطبيعي للأشياء، وذلك هو حال الزيارة التي قام بها، مؤخرا، وزير الخارجية والتعاون الدولي، ناصر بوريطة إلى موريتانيا.
وقد اختارت الدولة المغربية من خلال رئيس ديبلوماسيتها أن تؤطر هذه الزيارة بالتذكير باتفاقية الأخوة وحسن الجوار.
وفي الصورة الواضحة، هناك مضمر له عمقه وبداهته، ويقول هذا المضمر إن الاتفاقية، التي لعب فيها الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين دورا أساسيا، هي بحد ذاتها نفي لأي زعم بوجود شعب بدولة ما بين الرباط ونواكشوط، أو تقرير مصير مزعوم آخر….
في سياق الاتفاقية، كان الواقع يساير منطق البداهة:
كيف يمكن عقد اتفاقية حسن الجوار، في 1970، وبحضور الرئيس الجزائري، إذا لم يكن الجميع يسلم بأن الجوار الحقيقي الترابي المتلامس هو بين المغرب وموريتانيا، وبالتالي فإن الذي تنكر لهذه الروح، هو من دعم من بعد فكرة قيام شعب من سراب الصحراء ودولة من سراب السياسة.
فقد كان من غير المنطقي أن يتم توقيع اتفاقية حول جوار أخوي وحسن، إذا كان هناك بالفعل تراب أو أرض لا تنتمي للبلدين، بينهما.
ومن هذا المعنى فإن الزيارة، تكون قد تأطرت بروح الاتفاقية وبمرور خمسين سنة على توقيعها.
اليوم، علينا أن ننظر باتجاه الشمال، أي باتجاه الجارة الأيبيرية، والتي تطورت العلاقة بيننا وبينها من علاقة عادية إلى علاقة استثنائية، ونتساءل كيف حدث ذلك، بالرغم من أن كل عناصر التوتر، التاريخية والجغرافية والجيواستراتيجية، كانت عناصر مقلقة إن لم تكن مناهضة لنا؟
لعل أصلح علاقة اليوم، هي العلاقة معها، وبالرغم من أن اتفاقية حسن الجوار، التي يريد لها اليمين المتطرف الآن أن تخضع للامتحان مجددا، لم توقع إلا بعد عشرين سنة من التوقيع على اتفاقية الأخوة وحسن الجوار مع موريتانيا، والحال أن الصعوبة كلها كانت في العلاقة مع إسبانيا منذ تلك الفترة، وكانت الدولة التي تحتل الجنوب المغربي في فترة توقيع اتفاقية حسن الجوار مع المختار ولد دادة، ومع ذلك صارت العلاقة الأكبر والأوثق والأمتن…
شرقا، العلاقات أقل صعوبة، وأقل تعقيدا، مما هي عليه مع إسبانيا، ومع ذلك فهي الأكثر توترا، والأكثر صعوبة والأكثرعداء حتى، مقارنة مع الحدود الأخرى..
العلاقة مع إسبانيا اليوم، كما تدافع الديبلوماسية المغربية، هي علاقة مع دولة تمثل أول شريك تجاري، والأشد تعاونا في مجال محاربة الإرهاب، والأكثر عقلانية وتبصرا في الجوار الاستراتيجي، لا سيما وقد نجح البلدان في ترسيم الحدود البحرية، من زاوية المصلحة المغربية بدون تأثر سلبي أو قلق متبادل…
في سياق الوضع نفسه، تعرف الأقاليم الجنوبية افتتاح العديد من القنصليات والتمثيليات الديبلوماسية لدول إفريقية، وهو الحدث الذي يمكن قراءته من وجهة نظر الأفارقة أصدقاء المغرب، بأنه انتباه إلى أن العمق الإفريقي للمغرب، هو في صحرائه، وأن استشراف المستقبل في القارة والمحيط يمر عبر التواجد في المنطقة.
بطبيعة الحال، كانت الآلة المناهضة للمغرب تردد بلا مهادنة بأنه لا أحد يعترف للمغرب بمغربية الصحراء عمليا، فجاء القرار الإفريقي بفتح تمثيليات ليؤكد أنه لا فرق بين العيون أو فاس أو الدار البيضاء، التي تتواجد فيها تمثيليات قنصلية للعديد من الدول…
المرور عبر توطيد العلاقة مع موريتانيا، لا يمكن فهمه بدون العودة إلى خطاب الملك في نونبر من السنة الماضية، والذي تحدث فيه عن نقل الثقل السياسي والعمراني من العاصمة الرباط إلى أكادير، حاضرة المغرب السياسي المقبلة، وبالتالي فإن ديبلوماسية القرب الجغرافي تفرض بالفعل تطبيع العلاقة مع الجار والأخ الجنوبي، وهذا الاعتراف الفعلي هو موافقة على مستقبل التحول السياسي والجغرافي للمملكة، وتطوير العلاقة مع الجسر الموريتاني نحو إفريقيا…
هناك، ولا شك، أسباب اقتصادية وأخرى بشرية تهم الحركية بين المغرب وإفريقيا وراء هذه الخطوات، كما أن الدول الإفريقية تعي بأن المغرب يدبر جيدا علاقته مع إسبانيا، بوابة إفريقيا نحو الاتحاد الأوروبي، وشمال الكرة الأرضية، وبالتالي فهو ضمانة حقيقية لإفريقيا في العلاقة مع العالم الأوروبي، وبالتالي هناك فرصة استثمار ديبلوماسي حقيقي من طرف الدول المعنية.
كل هذه المعطيات البراغماتية والمصالحية، لا تسقط الجانب الشجاع في امتلاك قرار سيادي قوي وجريء من لدن الدول التي فتحت تمثيلياتها القنصلية في أقاليمنا الجنوبية، الشي الذي لم تتمالك معه الجارة الشرقية نفسها وحشرتها في توتير العلاقة مع الكوت دي فوار، بطريقة تكاد تكون مجانية!!!!
وعلى ذكر الجارة الشرقية، لا يمكن فصل ما يحدث عن الأجواء التي خلقتها مضامين القرار 2494 الأخير الصادر عن الأمم المتحدة، والذي ذكرالجزائر خمس مرات، كفاعل في النزاع ودولة معنية به وبإيجاد الحل له.. وهو ما أثبتته خرجة الديبلوماسية الجزائرية، مع الرئيس الجديد تبون، في كلمته أمام قمة الاتحاد الإفريقي، ثم استدعاء سفير بلاده في كوت دي فوار، عندما شددت على استقلالية قرارها ورفضها إملاءات تهم علاقاتها الدولية.
هناك مرحلة جديدة في المنطقة وفي شمال القارة، كما أن هناك مرحلة جديدة في قضية الصحراء، تتميز بغض الطرف الدولي عن شيء يسمى الاستفتاء أو تقرير المصير، وتكريس معايير الحل السياسي السلمي والمقبول، مما يؤشر على دخول المنطقة مناخا سياسيا جديدا، أهم ملامحه هو هذا الجنوح العام نحو التسليم بمغربية الصحراء عمليا، وتفكك الجبهة المناهضة للمغرب في إفريقيا، بعد سنتين من عودة المغرب إلى أسرته المؤسساتية.

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 27/02/2020