جيوب مقاومة التغيير، المنهجية الديمقراطية والقوة الثالثة مقابل الدولة العميقة والتحكم والعفاريت

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

 السن الحقيقي للمصطلح السياسي

يقدم الدكتور سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة، حصيلة نصف الولاية، كما تعارفت عليها أروقة البرلمان المغربي منذ تجربة التناوب التوافقي.
وهو تمرين سياسي تشريعي تنفيذي وإعلامي، غير مسبوق، في التجربة التنفيذية المغربية، بادرإليه الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي في السياق الذي نعرفه جميعا.
التذكيرهنا، منزوع الحنين، ولا شِيَّةَ فيه، من حيث تسجيل الموقف، بل إنه يستفز الإغراء، لأنه يحيل على حضور آخر لتلك المرحلة عندما كان الاتحاد يقود الجهاز التنفيذي، ويضع أفقا سياسيا للمرحلة، وهذه المرة على مستوى القاموس المؤطر للنقاش السياسي، وللتفكير المؤسساتي عموما.
ففي الأسبوع الأخير من أبريل المنصرم، أعاد رئيس الحكومة، إلى أذهان الناس، وأيضا إلى القاموس السياسي المغربي، مفهوم» جيوب مقاومة التغيير« الذي استعمله الأستاذ المجاهد عبد الرحمان اليوسفي في توصيف الإرادة المناهضة لإرادة الإصلاح المعبرعنها من خلال حكومة التناوب.
ليس الأمر هنا إغراء بالمقارنة بين المرحلتين، وإن كنا لا نعدم أسبابا لذلك، ولكنه فرصة للتذكير بأن المفهوم، لم يكن هو وحده الذي عاد من المرحلة، التي دبر فيها الاتحاد والاتحاديون بقيادة اليوسفي الشأن التنفيذي في مؤسسات الدولة الحكومية، بل هناك عودة مفهوم آخرأطر التفكير المرحلي، بل التفكير الدستوري في البلاد، هو مفهوم «المنهجية الديمقراطية»، الذي يراد له أن يستعمل كما لو أن حجة ضد من صاغه، وليس مجهودا للخروج من حالة «توعك» دستوري سياسي معروفة تفاصيله اليوم..
وعودة مفهومين مهيكلين للتفكير وأسلوب التفكير، هما «جيوب المقاومة» و«المنهجية الديمقراطية»، ليس من باب عفو الخاطر السياسي، بل يستحضر حينا، من باب السجال « الاستنكاري»، وحينا أخرى من باب الاقتراب أكثر من العقل السياسي المغربي، وعودة إلى الاشتقاق اللغوي- الاصطلاحي كما نبت في التربة المغربية، وكما تطور فيها، وهيكل أقانيمها..
فنحن أمام سقف محدد للإبداع في اللغة القادرة على توصيف الحالة، بدون إقامة طويلة في الالتباس والعموميات أو في النزوع الاتهامي، الاستشباحي.
فقد عرف الجدال السياسي، في فترة ما بعد 2011، بالتحديد، وإلى حدود التجربة الحالية، قاموسا طفا على السطح، في محاولة لتأطير التفكير والتداول الاعلامي – السياسي، لكن سرعان ما استنفدَ قدرته البلاغية وأيضا قدرته على الاستمرارية.
فالتوصيفات البلاغية، ذات الحمولة الترميزية، التي متحت من الخيال الأدبي، من قبيل العفاريت والأشباح والتماسيح، لم تكن كافية لتصمد أكثر من صمود أي تشبيه إعلامي، ولم تستطع أن تنحتَ لنفسها مجرى دائما في التفكير والتداول، إلا عندما يكون القصد الواضح من استعمالها هو التفكه، أو الترويح أو في الشدة، التلويح بالتسمية بدون القول..
ولم تصمد مفاهيم ذات حمولة قوية، في بيئات سياسية أخرى (التركية والمصرية تحديدا) في أن تُبيِّءَ نفسها في التربة المغربية، كما قد نزعم.
ولم تنبت في العقل الذي يفكر في المرحلة، كما حدث مع المفاهيم والتمارين السابقة.
مفهوم الدولة العميقة، ومفهوم التحكم، كمقولتين أساسيتين يُبَنْيِنان التفكير في الدولة المشرقية وفهم الصراع معها.
ففي هكذا تعريف، يكون حفتر والسيسي وبشار الأسد او الجنرالات الجزائريين، كما يشير إلى ذلك المستشرق جان بيير فيليو في كتابه (جنرالات، عصابات وجهاديون، قصة الثورة المضادة العربية)، هما الممالك الجدد أو الانكشارية الجديدة الذين يقوضون الثورات في بلدانهم..
ولعل ضمور الاستعمال ، في هذه النازلة جاء للمبالغة ، وهي نفس المبالغة في استعماله التي تسببت في ضموره.
ففي تقدير المفاهيم المذكورة، هناك ثورة في الربيع المغربي، وهناك انكشارية يرفضونها ويفرضون موتها.
وحقيقة الأمرأنه في التعليق بهكذا صورة، قصور في فهم مياكانيزمات الدولة والفعل السياسي المغربيين. وحقل الدلالة هنا تكون له سلطة لا يمكن أن تغيب، في تحديد مدى عقلانية التفكير السياسي والدقة في التقاط مفاتيح العمل المؤسساتي الوطني.
بلغة أكثر تلخيصا، لقد فشل المفهومان في الإقامة في حقل سياسي تحكمه مفاهيم أخرى ، سواء في تعريف العراقيل (جيوب المقاومة – مقابل التحكم) أو في تعريف أزمات الانتقال (المنهجية الديمقراطية مقابل الدولة العميقة)..
وهو عجز في الديمومة، لعل مرده كونه يلغي طبيعة الدولة في المغرب، وطبيعة الآليات التي تتحكم في الأزمات وفي الانفراج معا، كما تتحكم في إرادة الإصلاح ومصدرها.
عدا ذلك، يبدو واضحا في كثير من الحالات، الالتباس في استعمال القاموس الوطني، الذي أنضجته الصراعات، كما التوافقات داخل البلاد، من قبل «القوة الثالثة» والكتلة التاريخية وما إلى ذلك من مقولات تحضر بهذا القدر أو ذاك في التفكير الوطني المغربي لتوصيف الحالة او لتأطير التفكير فيها.
إننا عندما لا نحسن تسمية العالم نضيف كثيرا إلى مآسيه، وإلى بؤسه أيضا ، كما قال ألبير كامو ..
وقد يحدث أن «الزواج المختلط» بين قاموس لغوي ما وواقع سياسي غريب عنه ، قد يكون سببا في الضمور المفاهيمي الذي نقصده هنا، بحيث يميل الواقع إلى اللغة الأكثر قربا من تراثه الدلالي الذي يحصل به التواصل.
وبهذا يمكن أن نستخلص، بغير قليل من المجازفة أن الجهاز المفاهيمي العاجز عن البقاء، هو الذي يكون له عجز أياض في «السلطة على الدولة أو الحكومة، وهكذا يضع نفسه في موضع هشاشة تحرمه من الاستمرار على قيد الحياة..
هناك مصطلحات حقا، بلا دول
وهنك دول لا يمكن أن تخضع لقاموس سياسي مهما بلغت درجة إغرائه، بل قد تنزع عنه أي سلطة أو وضع اعتباري ما لم يكن من صميم تجربتها!
لا بد من بنيات سياسية كي نمارس كل نفوذ أو سلطة على لغة ما أو قاموس ما، ولا يمكن أن تكون جزءا من بنية سياسية معينة، وتطمح إلى التأثير عليها باصطلاح سياسي تطور في بنية سياسية أخرى..
أو العكس..
إن السن الحقيقي للمصطلح السياسي يحدده الواقع، وليس التبني وحده، بالضرورة…

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 11/05/2019