حقوق الإنسان، بوليصة تأمين ضد الديموقراطية!

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
هناك ضرورة أدبية ومهنية للتنبيه إلى أن «كل تشابه بين الوقائع والأسماء والتواريخ هو محـض صدفة»…..
صادم ومفاجئ
ولعل أول عبارة تراودك هي أن تصرخ :هذا تناقض تُشتَمُّ فيه الخيانة الفكرية..! لكنك إن صرخت بالعربية فقد لا يفهمك صاحب هذا العنوان.
فهو جاك جوليار الفرنسي، المؤرخ وصاحب المقالات والكتب الفلسفية..
ولعلك تضيف استنكارا آخر عندما تعرف صاحب الفكرة : أيمكن لصاحب كتاب «عبقرية الحرية» أن يقترف تفكيرا مثل هذا؟
ممكن، بل صار معطى وموضوع مناقشة منذ أن دافع عن هذه الأطروحة في العديد من مساهماته المثيرة للجدل، فلسفيا وقانونيا وتاريخيا ومجتمعيا، آخرها مقاله يوم الثلاثاء 6 أبريل الجاري.
الفكرة تبدو مقنعة: الإنسان لم يعد مواطنا، بل مجرد فرد في حالة طلب مضطرد للمزيد من الحقوق.
وحقوق الإنسان، بناء على ذلك، لم تعد ذلك المثال السامي الذي يعبئ ويحمس الناس من أجل التحرر والانعتاق، بل صارت حقوق الإنسان، بوليصة تأمين!
بوليصة تأمين تزداد بنود الحماية الشخصية فيها وتتناسل.
جاك جوليار المناهض للإمبريالية والأنظمة الشمولية منذ أن كان طالبا، صحافي وكاتب ومدير مركز للأبحاث، ومؤرخ، ومناضل مداوم في فرن الأفكار الحارقة…
حبره من عرق ودم ومياه نادرة وهذا الرجل يقول لنا كلاما من هذا القبيل.
يدرك صاحبنا بأن زمن التوأمة السيامية، بين الديموقراطية وحقوق الإنسان، ليس بعيدا، لأنهما ولدا في المهد نفسه: الثورة الفرنسية.
كانت الجمهورية، هناك وفي الكثير من البقاع، هي الاسم الآخر للديموقراطية.
اليوم يبدو له أن من الصعب الادعاء بأن الديموقراطية وحقوق الإنسان ما زالا متلازمين!
وهو يقول بهذا للتعبير عن التوجس من هذا المعطى، ثم لتفسيره!
في البدء كان أصل الحقوق رباعيا، منحصرا في الحرية، الملكية، الأمن ومقاومة القمع.
هذه اللائحة اتسعت كثيرا، وتجاوزت الفضاء السياسي إلى كل مناحي الحياة، ونرى كل يوم »ازدهار التطلع إلى إقرار حقوق جديدة«، مع تجاوز حالة الاعتراف إلى حالة التنصيص عليها في كل المجالات، مما أفرز مزيدا من اللوبيات، أصبحت هي الخلايا القاعدية للحياة العمومية.!
ولهذا نجد أن المجتمع في هذه الحالة يفرمل نفسه ويعود إلى الوراء، جزعا مما يراه:
كما هو حال البيدوفيليا التي سبق لعريضة 26 يناير 1977 وقعها مثقفون، أن جعلت منها مبدأ مقدسا (كذا ) ، قبل أن تصبح جريمة نكراء..
الملاحظة التالية هو وجود مبدأ سماه، »مبدأ اللامحدودية«، مبني على قاعدة الأولوية العليا للذاتيات وسموها.
والقانون وحقوق الإنسان التي تنجم عنه لا يكفيان لتشكيل مجتمع، بل على العكس من ذلك نجد أن هذه النزعة »البروميتوسية« البخيسة في طور تدمير أسس هذا الجتمع.
أكثر من ذلك، يستخلص «جاك جوليار» نتائج سياسية لهذه النزعة الحقوقانية، لعل عنوانها هو أن «المنظمات الحقوقية تصيد صيد المجموعات المفترسة».
إنه انتقال من مجتمع المواطنين إلى مجتمع الأفراد المطلبيين..
في فقرة أخرى من مقاله المزلزل، يتحدث بسؤال صريح عن علاقة الحقوقانية وحق الوطن، نعم الوطن.
قليلون، يتحدثون باسم حقوق الإنسان و يرون أنها لن تمر إلا عبر تقزيم الوطن، ولا أحد يمكنه أن يخمن أن النشيد الوطني يمكنه مثلا أن يزعزع الشعور. ويتساءل: من ستَعِنُّ له الفكرة الباروكية للموت من أجل البلاد؟..
إلا إنه يذكرنا بشيء بدهي: أن الذي يطالبك بالكثير من الحقوق ويحاسبك باسمها عليه أن يقيم الدليل أن الوطن الذي يجمعك معه، هو مهد هذه الحقوق
وأنه متفق أيضا بأن الحقوق التي تهدم الوطن لا يمكن أن تسمى حقوقا..
ثانيا ينبهنا إلى ميل البعض، إلى مطالبة الوطن بالحساب، والدولة بالتعويض أمام أي شيء… في ما يشبه نظرة استهلاكية للوطن، أي المستهلك يعوض الوطني والمواطن..
وعليه، لا يكون من مهام ووظيفة رجل السيادة أن يقود البلاد بل عليه أن يحميه هو!
ومن هنا تصير حقوق الإنسان بوليصة تأمين ضد كل شيء، بما فيها الأخطار الذاتية (ارتكاب شيء ممنوع قانونيا ومباح حقوقيا في هذه الخطاطة) والاخطار الموضوعية!
والخلاصة:
إن حقوق الإنسان وما تتعرض له من تشويه، ينقلها من الإطار الكوني إلى خانة الخاص، تهديد للديموقراطية!
وهي في ذلك، تميل نحو تعويض سيادة الشعب، بطغيان أقليات من النشطاء..بمعنى آخر لو أن الشعب تم استفتاؤه حول القضايا »الريغالية« السيادية الحالية، هل سيميل نحو دوكسا /الدوغمائية المهيمنة اليوم؟..
لهذا هناك ضرورة العودة إلى العقد الاجتماعي وإعادة تعريف الإرادة العامة باعتبارها «ليست مجموع الإرادات الخاصة /الفردية، بل هي استبطان كل واحد منا للإرادة العامة باعتبارها تسمو على الإرادات الخاصة».
بمعنى آخر، لا بلد يمكنها أن تعفي نفسها من تحديد معنى برنامج وطني تحرري national et patriotique يتجاوز المصالح الخاصة والضيقة نحو المصلحة العامة….
فهل نطلب مجهودا مستحيلا من الأحزاب والمنظمات والأفراد، لتحقيق هذا المجهود الوطني الضروري؟
أنبه مجددا إلى أن «كل تشابه بين الوقائع والأسماء، والتواريخ هو محـض صدفة….».
بالنسبة لمغربي ما زالت بلاده ترسخ قيم الديموقراطية الناشئة، وتعمل على تكريس حقوق الإنسان، بمعناها الكوني، قد تعتبر هذه الأعراض، في خانة الترف البرجوازي، أو من باب أعراض الإفراط في التطور ربما. غير أن السؤال الذي قد يرافق هذه المعاينة هو: ومن يحصن بلادا تصنع تاريخها، بِرويَّة، في الحقوق والديموقراطية من الانزلاقات قبل.. التصليب والترصيد؟..
مجرد سؤال لا علاقة له بما سبق!
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 13/04/2021