حق الشعب في الاكتفاء الذاتي والسيادة الغذائية (2)

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
يحصل الاتفاق على أن الفلاحة أولوية في السيادة الاستراتيجية، بل لعلها الركيزة الأولى فيها، وفي استقرارنا!
ومن هنا، لا يمكن إغفال الربط بين السيادة الغذائية والاستقرار الوطني، في بلاد كالمغرب.
والملاحظة الأولى التي لا بد منها هي تلك الكامنة في السؤال: ما هي أعمدة هذه السيادة الغذائية؟
وعليه، فإن أول أعمدة السيادة الغذائية، كما هو متعارفٌ عليها دوليا هو إطعام الناس طعاما كافيا نوعا وكما، وبشروط غير تعسفية (بفعل الغلاء مثلا)؛ وثانيها، تثمين عمل المنتجين الفلاحيين، كل المنتجين وليس الكبار منهم فقط، كما يعاب ذلك على السياسة الفلاحية، وفي قلبها المغرب الاخضر؛ وثالثها، تطوير أنظمة محلية للإنتاج ، تكون في خدمة الجميع، بمن في ذلك الفلاحين الصغار والمتوسطين؛ ورابعها، تقوية المراقبة المحلية، وهذا أمر لا يمكن القفز عليه، في التعريف الدولي للسيادة الغذائية، لأن بدونه يمكن أن يسود قانون الغاب؛ وخامسها، تعميم نسيج المهارة والكفاءة والعمل مع الطبيعة…
وفي هذا الباب بالذات، يكون الماء أولا وأخيرا هو عربون الصداقة مع الطبيعة الحيوية… والحفاظ على الفرشة المائية والفرشة النباتية، بجعلهما مرتبطين ارتباطا وجوديا مع بعضهما البعض.. وفي هذا المجال لدينا ما يجعل المعطيات المتراكمة واضحة وضوح الماء أو وضوح الشمس في فصل جفاف. وإذا نحن استحضرنا أن أغلب القرى المغربية تقوم على نوع معين من الفلاحة (زراعة معيشية وتربية مواشي محدودة)، فإننا ندرك مزايا السيادة على بلاد مثل المغرب، حيث يمكن القول إن السيادة الغذائية تضمن حياة جيدة للمنتجين أنفسهم أي الفلاحين الصغار، الذين لا يضطرون إلى بيع محصولهم بمبالغ بخيسة بغية الاستفادة من خدمات أخرى بما يعني التضحية بالتغذية المناسبة لأجل الخدمات..
ثم الأهم، بعد الأعمدة الخمسة، هو الملاحظة الثانية، وتفيد أن الفلاحات المحلية تعمل على تنشيط الأسواق المحلية، لما لذلك من تأثير على نوع من التجارات التقْسيطية التي تنفع مجتمعا مثل مجتمعنا، وإضافة إلى تحسين القدرة الشرائية للساكنة القروية.. وهو نوع من التحصين والمناعة ضد تقلبات الأسواق الخارجية وأزماتها.
والخلاصة الأساسية من هذا هو الترافع لفائدة الفلاحة الصغرى والمتوسطة أمام التوجه المفرط نحو التجارات الكبرى التصديرية التي نتج عنها اختلال مجتمعي كان منبعه فهم معين، لا نقول قاصرا للسيادة الغذائية، بل فهم يعمل بالاقتصار على الإنتاج الموجه للتصدير وحده وليس تعميم الاستفادة.
الملاحظة الثالثة، مفادها أن السيادة الغذائية تواجه معضلة تبدو ثانوية في وقت الأزمات، وتتعلق بالثقافة الاستهلاكية، والتي يتردد ذكرها في الآونة الأخيرة في التحليلات المغربية. وهي قوة قاهرة بالنسبة لكل البلدان، لأن الاستهلاك الغالي أصبحت له مميزات عامة تفوق قدرات البلدان، حيث صارت التغذية ذات معايير موحدة وقارة… ومن مميزاتها دوليا:
1 – استهلاك بدون رابط ترابي محلي، فالمغربي اليوم يأكل من تراب الأمريكيتين، كما يأكل من تراب وضيعات البلدان الغربية، وبالتالي فسقف اختياراته الغذائية ارتفع وتنوع وأصبح مكلفا، كما هو حال التصدير الفلاحي.
2 - التغذية عندنا، كما عند غيرنا خارج التحقيب الزمني، أي خارج المواسم المعروفة (الدلاحْ بلا وقت كما يقال في المأثور الشعبي).…
الملاحظة الرابعة: المساهمة المبالغ فيها للقطاع الخاص وإن كان الأمر لا يخص الفلاحة حصريا، بل هو سلوك يندرج ضمن تصور ليبرالي واسع حول سياسة المقاولات التي ترى أن مفتاح السيادة الغذائية هو الاستثمار الخاص.. وتكون النتيجة هي تهميش العلاقة بين الدولة (حاملة الواجبات) والمواطن (الحامل للحقوق).. وهذا هو نوع من تفويت مهمة الوظيفة العمومية الى الفاعل الخاص، وهو ما يجعل المحاسبة، المُمأْسسة دستوريا، تقع بين المقاولات والمساهمين فيها، وليس بين القطاع الوزاري والمواطنين…! وبذلك نكون أمام «خوصصة تدريجية للحكومة الفلاحية»، والجواب على ذلك هو العودة الى الحق في الغذاء ومعايير الحصول عليه، حتى يكون فائض الفلاحة أداة في خدمة المواطن وليس.. خدمة السوق، ويترك الحق في الربح، باعتباره عقيدة ليبرالية تتوحش أحيانا، مكانه للحق في التغذية..!
الملاحظة الخامسة: هي أن من حق المغرب أن يطمح الى أن يكون قوة فلاحية، وهو ما يعزز لدينا الطابع الإجباري للتحليل جيو استراتيجي للمسألة الفلاحية، والبحث عن الأوراق الرابحة التي يملكها المغرب في عالم يعاني من سوء التغذية ومن التقلبات في الأسواق.. (وقد كان لدينا في قضية ربط تمويل الشركات بالأسمدة المنتجة من الفوسفاط بالقدرة على الحصول على القمح، بعد اندلاع الحرب الروسية الاوكرانية، مثالا ملموسا. وفي ذلك تابعنا كيف غيَّر المغرب تموقعه مع الهند بعد قرارها السيادي بوقف تصدير الحبوب، وتغيير وجهته نحو البرازيل مثلا، وهو تغير صاحبه كذلك توقيع اتفاقيات ذهبت أبْعدَ من الزراعة والفلاحة ولامست الدفاع!.
ومما شجّع على نهج سياسة فلاحية تصديرية agro-exportatrice استفادة بلادنا من إطار سياسي محفز وتشبيك دولي (أوروبا أساسا) وقاري (إفريقيا) مناسب، غير أن هذه القوة الفلاحية المصدرة التي تحمل طابع المغرب، تعاني بدورها كما برز في ضعف إنتاج مواد غذائية محددة منها بعض الخضراوات والقمح والشعير، واللحوم، مما فرض ارتفاع أسعارها أو اللجوء الى الاستيراد لضمان وجودها في الأسواق.
ويجدر بنا أن نشير إلى أن دفاع الحكومة في مجال السيادة يقوم على مساهمتها في الناتج الوطني الخام، والحصول على العملة الصعبة، وفتح الأسواق الدولية.. الخ، وهو جزء من الكل الذي سبق ذكره، ولا يستحضر الكلفة الاجتماعية المحتملة لآثاره. ولعل بعض الدول نهجت تدبيرا وحكامة مؤسساتية معينة عبر إنشاء مؤسسة أو مندوبية أو لجنة تابعة للدولة أو الحكومة مكلفة بتتبع المخططات المتعلقة بالتغذية.. ولم لا نفكر مغربيا في هذا السبيل؟
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 06/05/2023