دو توكفيل يقرأ مصالح المغرب الكبير مع بايدن

عبد الحميد جماهري

كان أليكسيس دو توكفيل، في معرض حديثه عما سمّاه “عن الديموقراطية الأمريكية” قد رأى في الولايات المتحدة الصورة المثالية لهذا الالتزام النبيل للسلم السياسي، والذي نتعارف على تسميته الديمقراطية. وكتب “أعترف بأني، في أمريكا، رأيت ما هو أكبر من أمريكا، لقد بحثت فيها عن صورة الديمقراطية نفسها”. وأمام هذا الاعتراف الذي يعود إلى قرابة قرنين، يبدو من المتابعة الكبيرة لكل البشرية مجريات الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وكأن آخر الأخبار كتبت بالفعل في سنة 1853، تاريخ صدور المجلد الأول من كتابه، مع تعديل بسيط، ربما يقتضيه الفارق الزمني، وهذا الفارق أن الأمريكيين عادوا إلى البحث عن تلك الصورة المثلى في انتخابات رئيسهم، فقد سمعنا عقب الإعلان عن نتيجة الاقتراع الرئاسي، وقبله بقليل، عن الفرح بعودة المؤسسات والديمقراطية.
أشادت كامالا هاريس، أول امرأة تتبوأ منصب نائب الرئيس الأمريكي، بـ”يوم جديد لأمريكا”، وصارت إلى القول إن “هذه الانتخابات هي حول ما هو أكثر بكثير من جو بايدن أو مني”، مضيفة أنها “تتعلق بروح أمريكا واستعدادنا للمحاربة من أجلها”، نحن أمام تصريح يتجاوز التعبئة الانتخابية إلى شعور عام، كما لو أن أمريكا تكتشف نفسها من جديد، بعد العبور القرف للرئيس ترامب الذي بعثر المؤسسات لفائدة فردانية، كان توكفيل نفسه قد اعتبرها أحد الانزلاقات التي تهدد الديمقراطية الأمريكية. ويمكن للخيال الأدبي أن يزور الكاتب الفرنسي بكتابه عن الولايات المتحدة، ويراه وقد شدّ رأسه، وهو يتقلب في قبره، فصاحب “الديمقراطية في أمريكا”، أهم كتاب ربما عن الحكم، في القرنين الأخيرين، كان يعتبر أن أهم ميزة للديمقراطية الأمريكية أنها تنبني وتشيد على إطلاقية السيادة الشعبية، فهو لم يضرب حساب ترامب، بعد عقود، وهو “يربي” الديمقراطية على الطريقة العربية، أي التي تقف عند مزاج الحاكم.
قام توكفيل بتحليل الديمقراطية كبنية سياسية، وهذا ما تحتاجه اليوم. وهو ما يفسّر، عطفا على ذلك، الحديث عن الزخم الذي تعطيه الحركة الديمقراطية للحكومة والقوانين والحياة السياسية. وتاليا، انتصار المزاج الشعبوي، التآمري على الديمقراطية، وبانت أعراض تدهورها في “الاستبداد أو الطغيان الرخو” الذي حذر منه توكفيل، والذي أراده ترامب وسيلة للبقاء. وقد توقع دو توكفيل كل انزلاقات الديمقراطية الأمريكية، ولخصها في ثلاثية معروفة اليوم في أدبيات السياسة: طغيان الأغلبية، والفردانية، واستبداد الدولة.
الروح العامة للعقل، كما تتجسّد في الممارسة السلمية للتنافس السياسي، لغَّمها الفرد المرشّح بإظهار العضلات والشحن الميتا – عرقي، والتشكيك في كل الخصوم والوسائل التي تؤدي إلى.. هزيمته. وهنا لا بد أن نتساءل عن المعنى التاريخي للانتصار الذي حاز عليه جو بايدن، كما عبرت عن ذلك أغلب عواصم العالم الحر، على الرغم من أن التمرين الديموقراطي الذي اعتادته أمريكا يجعل التمرين الانتخابي مسألة معتادة؟ الواضح أن الغرب الأطلسي وجد في “تاريخية” النصر عودة إلى ثوابت السياسة الدولية، بمنظماتها الدولية والأساليب المعتادة التي لا تعطي للعجرفة الذاتية معنى في بناء العلاقات الدولية.
من الزاوية المغاربية، كانت التخوفات تكاد لا تكون معلنة من الدول المعنية بالسياسة الأمريكية، فلا شيء كان عند ترامب بدون مقابل، سواء على أساس المصلحة الأمريكية المباشرة، أو على أساس المصالح المشتركة مع دول يقتسم معها المصلحة أو التموقعات، كإسرائيل. وإذا كان صحيحا أن المنطقة المغاربية لم تخضع للضغط نفسه الذي خضعت له دول الشرق الأوسط، فقد كان واضحا أن الأخير كان سيفرز نتائج على الاستراتيجية في هذه المنطقة، ليس أقلها استمرار الضغط من أجل التطبيع مع دولة الاحتلال أو التموقع في مواجهة روسيا، بحشرها في خندقه عند التنافس الجيواستراتيجي أو الصين، من زاوية الحرب الاقتصادية التي خاضها ضد التنين الأصفر. وقد لا تتغير ثوابت الاستراتيجية الأمريكية رأسا على عقب، وجو بايدن، من زاوية المصالح، سيظل أمريكياً، وإن كان ديمقراطيا، وخلافه مع دونالد ترامب أنه سيشرك الأنظمة، والشركاء الأقربين، سيما الأوروبيين في تدبيري الثنائي الآسيوي، الروسي – الصيني، في إفريقيا وتدبير مشكلات الأمن والتهديدات الإرهابية، إضافة إلى محاولة اللعب على قاعدة الديمقراطية في تحديد شروط التعاون.
وسيكون للاكتشاف الديمقراطي لبايدن، بعد التجربة الترامبية، ثمن، وامتداد أيضا. وقد يكون مختبره من خارج أمريكا، بعد إعادة توحيدها، هو دعم الدول السائرة في طريق البناء الديمقراطي، وإعادة تنشيط التعاون مع الدول التي تفعل البند الديمقراطي في إدارة شؤونها، أي الدول التي تقتسم معه هذه الروح العامة للعقل الديمقراطي، سواء من خلال دعم منظماتها الديمقراطية والمدنية، أو من خلال تطوير الشراكة مع حلف شمال الأطلسي، أي الشريك الاستراتيجي المفضل، كما هو حال المغرب وتونس. وتنتظر بلاد المغرب بالذات مواصلة الشراكة الاستراتيجية والدعم، من خلال استمرار الشراكات الاستراتيجية، اقتصاديا وتنمويا وأمنيا، والتي تدمج فيها الأقاليم الجنوبية. وسيكون جو بايدن، من زاوية إنعاش الديمقراطية الأمريكية، أمام معيار أو سلّم قيم، يأخذ بالاعتبار التقدم على هذه الواجهة، من خلال الأخذ بالاعتبار الديناميات الداخلية للدمقرطة، وهو أمر لا تتساوى فيه دول المغرب الكبير، للأسف.
بالرجوع إلى دو توكفيل، للربح الدائم، لا بد من الاقتناع النهائي والدائم، بإطلاقية السيادة الشعبية، ثم لا بد من تحليل الديمقراطية كبنية سياسية، بما يعني ذلك من حيوية، تنفخها الحركة الديمقراطية في الحكومة والقوانين والحياة السياسية، وهو أمر يحصن أيضا من تقلبات المزاج الانتخابي للقوى الكبرى!
نشر في‮ ‬موقع‮ «‬العربي‮ ‬الجديد‮»‬

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 11/11/2020